الأهالي ضد الأهالي بخطاب المواجهة الأوّل هذا، وصفت وسائل إعلام السلطة اعتداء شبّان بالعصيّ على متظاهرين في ساحات التظاهر. جاء ذلك بعد محاولات تهذيب الهتافات الشعبية، عبر خطابات أخلاقية أغرقنا بها صحافيّو السلطة. أراد خطاب المواجهة هذا القول إنّ لا هوية شعبية لهذا الاحتجاج، وإنَّ الذي يحدث في الشارع هو نزول أهالٍ قبالة أهالٍ آخرين متضرّرين. أدّى هذا الخطاب مؤدّاه، وتراجعت الهتافات الشعبية باتّجاه مكوّنات مدنية، وذلك عبر التكرار الكلامي عن حضارية اللحظات التي نشهدها: نحن متعلّمون وأولاد بيوت. وإذا كانت الشتائم قد هشّمت الصورة المفترضة للكيان اللبناني، تلك الصورة التي يصدرها الكيان يوميًا، فإنّ التراجع عن الشتائم نحو خطّ تهذيبها أدّى إلى الارتداد إلى الصورة نفسها. لا يعني التدليل على هذا الارتداد الافتتان بالشتيمة كشتيمة بقدر ما هو محاولة لفهم تواجد الشتيمة وتراجعها في السياق الاحتجاجي وفي سياق الصورة التي تنتجها الانتفاضة عن نفسها. فهل جاء التأديب «الأهلي» بالعصيّ ليردّ الشعبي إلى مكوّنه الأهلي، فينكفئ المنتفض وراء مدنيته ظنًا منه أنه يحاول التمايز عن «هؤلاء»؟
المدني ميليشياوي يعزل الأهالي بدا خطاب المواجهة الثاني في إعلام السلطة وصحافتها أكثر حزمًا، والحزم سببه سيطرة المكوِّن الشعبي من جديد باستشهاد علاء أبو فخر. فقوبِل الدم المسفوك بالتحذير من استعادة مرحلة الدم. وعلت صيحات التحذير: ها هو المدني يبني جدارًا، وها هو يسيِّر بوسطة الحرب من زمن سحيق. المدنيون ليسوا مدنيين إذًا، اكتشف إعلام السلطة. هؤلاء انعزاليّون وقطّاع طرق وناكئو جراح ومقتنِصو لحظات ضعف الوطن. هؤلاء ميليشيات وزعران. استمرّ الخطاب في ضربه على وتر شبح الحرب. وردًّا على ذلك، عاد التركيز على مدنية التحرُّك، في محاولة للاستثمار في هذا التمايز الصُّوَري واللغوي والتعبيري.
مدنيّو الطبقة الوسطى ضدّ الأهالي الفقراء بخطاب المواجهة الثالث هذا، موضعتْ أصوات السلطة التحرّك الشعبي ضد الجلسة النيابية التي صار اسمها، وفقاً لتلك الأصوات، «جلسة العفو العام». أوضح لنا هذا الخطاب أنَّ الطبقة الوسطى والطبقات العليا (المدنيّون) حرموا الفقراء (الأهالي) من العفو. مُهِّد لهذا الخطاب على مهل ونار خفيفة طيلة أسبوع كامل قبل نهار تعطيل الجلسة. في هذه المحاولة، أرادت السلطة أن تضع الشعبي المنكفئ إلى مدنيّته في مواجهة جديدة مع الأهالي، إمعانًا في عزله عن هويته الشعبية.
طيلة الأعوام الماضية أُفرِغ المجال السياسي. سيطرت المنظومة الحاكمة على ما تبقى من النقابات، وأُخِذ الأهالي رهينة، وحوصرَ أيّ احتمال لاحتجاج شعبي. وعندما جاء المدني، جاء في فقاعة وبقي فيها. جرى التركيز في الإعلام على انعزال المدني عن أهله ومجتمعه. مقاربات المنظمات المدنية المغرقة في تقنيَّتها وعليائها، وخطابات العاملين فيها لم تنفِ التهمة. كان المدني معزولًا عن مجاله النقابي والسياسي وخلفهما الأهلي، معزولاً عن مكوّنه الشعبي. ولم يساعده إطلاقًا لجوؤه إلى التمايز، فصارت طبقيّته جزءًا من هويّته التي تتبدّى في ممارساتٍ تنويرية عارفة للحلول، تقرِّع الأهالي على عدم اللحاق به عند نزوله للشارع.
في ١٧ تشرين الأول، طرح الخروج الكبير فرصة ثمينة لاسترداد الفرصة الشعبية، بوصل المكوِّنات الأهلية ببعضها. تبدّى هذا واضحًا في تحرّكات المناطق والطلاب والنقابات البديلة. لذا قد يكون من المقلق، أن يرتدّ الخطاب العام من شعبيته نحو مكوّنات مدنية، وأن تتحاور هذه المكوّنات المدنية مع بعضها ومع أحزاب أخرى في غرف مغلقة، وأن تختار الاجتماع مع مؤسسات الدولة. إذ لا يمكن مواجهة محاولات السلطة بردّ الانتفاضة إلى فقاعة مدنية إلا عبر حماية الهوية الشعبية لهذا الخروج، وأن تعاد صياغة هذه الهوية يوميًا، وأن يعاد التذكير بالقول والفعل: أنتم أهلنا. نحن لسنا معكم، نحن منكم. لا نستعلي عليكم ولا نشرح لكم، بل نعي امتيازاتنا الطبقية، إن وجدت، ونستمع إليكم ونتواضع. نحن لسنا أولاد عائلات ولا بيوت. نحن أولاد الشوارع التي أعادت وصلنا. المدنية لن تصنع المكوِّن الشعبي. المدنية سيصنعها استرداد المكوِّن الأهلي، وتثبيت الهوية الشعبية لهذه الانتفاضة على لغة وعيش الجمهورية الثانية.