تحليل الجامعة اللبنانية
باسل ف. صالح

الجامعة اللبنانية: ديكتاتورية في طور التكريس

18 تشرين الأول 2022

تعصف بالجامعة اللبنانية، تاريخيًا، أزمات تطال مختلف المستويات، سواء لناحية الميزانية التي تقضمها الحكومة باستمرار، أو لناحية تفريغ الجامعة من الكادرين الأكاديمي والتقني، أو الاستباحة السياسية للملفات وغيرها من الأمور، ما يؤثّر على الحياة الجامعية على مختلف النواحي. إلّا أن أزمة أكثر خطورة باتت تتطور داخل الجامعة، وهي الديكتاتورية. 

الطلاب والانتخابات

شكّلت رئاسة فؤاد أيوب، واعتماده سياسة كمّ الأفواه داخل وخارج الجامعة، إحدى أبرز حقبات هذا الانزلاق. فلم يترك أيوب وسيلة إعلامية إلّا وحاول مقاضاتها. بدأ الانزلاق مع الطلاب، حيث أبدع أيوب بإجبارهم على توقيع تعهّدات غير قانونية، يلتزمون بموجبها بعدم نشر أي أخبار عن الجامعة أو الإتيان بأي سلوك يخالف الأخلاقيات الأكاديمية. وأبدع أكثر حين أثّر على حريتهم في المشاركة بالتحركات الشعبية خلال انتفاضة 17 تشرين، كما ضرب القرار المركزي في الجامعة أيام الانتفاضة عندما تُرك قرار التعليم أو التعطيل بيد المديرين في الفروع، ما كرّس المناطقية والهيمنة الطائفية والحزبية من بابها العريض. جاء ذلك استكمالاً للمنحى السلطوي الذي بدأ مع رئاسات الجامعة المتتالية التي أمعنت في استباحة حقوق الطلاب. فحتى اليوم تصادر الرئاسة حق الطلاب بانتخاب مجالس فروعهم بحجج ومبررات أمنية واهية. 


الأساتذة والرابطة

بدأت الديكتاتورية تتكرّس أيضًا على مستوى الأساتذة، حين استكمل الرئيس بدران المشروع الذي بدأته أحزاب السلطة القاضي بتفريغ الرابطة من مضمونها لناحية الدفاع عن الأساتذة في وجه أي تعسف أو كيدية داخل الجامعة وخارجها. فشرع في إجراء الامتحانات بما يخالف قرار الإضراب المفتوح، وبشكل يستبق ويصادر قرار الاستمرار بالإضراب الذي كانت الهيئة العامة في الرابطة تهمّ باتّخاذه بأغلبية المجتمعين الساحقة، قبل أن تصادر الهيئة التنفيذية في الرابطة قرارهم وتحقق رغبة أحزاب السلطة (الثنائي خصوصًا) برفضها إحالة الأمر على التصويت. تنص المادة السادسة من النظام الداخلي في الرابطة على ما يلي: يعتبر اجتماع الهيئة العامة قانونيًا بحضور أكثرية أعضائها في المرة الأولى وبمن حضر في المرة الثانية، على أن تفصل بين المرتين مهلة لا تتجاوز الأسبوعين. تُعَدّ الهيئة العامة السلطة العليا في الرابطة وتكون قراراتها ملزمة لمجلس المندوبين وللهيئة التنفيذية.

لم يكتفِ بدران بمصادرة قرار الهيئة العامة فقط، بل لم يسارع أيضاً للقيام بواجبه لناحية حماية أستاذ (عضو مجلس مندوبي الرابطة) تمّت مصادرة ساعاته في أحد الفروع من دون وجه حق، فقط لأنّه يؤدّي مهمته النقابية بالسهر على تطبيق قرار الإضراب الذي اتخذته الهيئة العامة (على الرغم من إصدار بيان من الهيئة التنفيذية لرابطة الأساتذة المتفرغين، تطلب منه التدخل الفوري لمعالجة الأمر). وهذا ما يحتّم طرح الكثير من علامات الاستفهام التي تطال صمته إزاء ممارسات تطيح بالقوانين والنظم المرعية الإجراء لكيفية تقسيم الساعات وتوزيعها على الأساتذة، ومن بينها القانون 66 الذي ينظّم عمل الجامعة، القاضي بتوزيع الساعات من قبل الأقسام ورؤسائها. قد يتدخّل بدران بالآخر لحماية هذا الاستاذ، ولكنّ أسلوب الكيديّة وأحادية الإدارة تجعل من كل أستاذ في الجامعة عرضة لممارسات كهذه، وتحت رحمة رئيسها الذي يستطيع أو لا يستطيع الدفاع عن حق الأساتذة بالتعبير.

لم يكتف بدران بهذا، بل يمكن ملاحظة خصامه مع الشفافية. فهو مَن نفى البحث في رفع تكاليف تسجيل الطلاب في بيان رسمي، لكنه تصارح في اجتماعه مع مجلس المندوبين بعد أسبوعين معلنًا أن زيادة التسجيل أمر ضروري. كما وأنه كان يفنّد في المقابلات الإعلامية الصباحية كل الأسباب التي تهدّد استكمال العام الجامعي وبداية العام الجديد، آخذًا على عاتقه الدفاع عن توقف الجامعة القسري، وفي اليوم نفسه كان يضغط ليفرض استئناف الامتحانات، ويترك للعمداء تطبيق الأمر بكل وسائل الترهيب والترغيب والتهديد والوعيد الممكنة. لقد كان يعلم بكل الممارسات التي تهين كرامة الأساتذة لكنه كان يكتفي بصمت الموافقة، بما يناقض أبسط الأخلاقيات الأكاديمية. 


إدارة أحاديّة

هذا كله دون أن ننسى أن استئناف الامتحانات لا يطيح بقرار الهيئة العامة فحسب، بل بالقانون 66 أيضًا لناحية تنظيم الامتحانات وإجرائها، وهو القانون الذي يشدّد على الإدارة الجماعية للجامعة. تنص المادة التاسعة على ما يلي: يتولى إدارة الجامعة رئيس ومجلس. وبعد تلكؤ السلطة بتعيين مجلسًا أصيلًا يدير الجامعة مع الرئيس (آخر مجلس جامعة تم تعيينه عام 2014 دون ممثل عن الطلاب)، يستكمل بدران الإطاحة بفكرة الإدارة الجماعية، فيصادر قرار الأساتذة في مجالس الوحدات والفروع والأقسام الأكاديمية.

بكل خطوة من هذه الخطوات، كان بدران يسعى إلى تفريغ الجامعة من الأطر النقابية كافة، ما فتح أمامه إمكانية إدارة الجامعة بالشكل الذي يراه مناسبًا، وصولًا إلى الصمت أمام التنكيل بالأساتذة، وكسر شوكتهم، وانتهاءً بتخييرهم: الي ما بده يعلّم يقدم طلب استيداع أو ياخد سنة على حسابه، كما قال أمام أساتذة، وكأنه يقول: لا للعمل النقابي داخل الجامعة، ولا لإصلاح وضع الأساتذة، ولا لحرية الأساتذة في تحسين شروط العمل… مؤسسة تحوي أكثر من تسعين ألف طالب وأستاذ وموظف، يديرها رئيس يقرّر وجامعة وأساتذة وطلاب ينفّذون. وهذا ما لم نسمع به في أعتى الديكتاتوريات.

يشي كل هذا أن الجامعة كمصنع لقيم الديموقراطية والإصلاح، باتت في مكان آخر ينتج قيم التزلّف والاستتباع والخنوع والصمت، قيم عدم الإلتزام بالنظم والقوانين، وينتج ثقافة عدم تحمل المسؤولية ولا المحاسبة ولا الشفافية. إن سياسة المكابرة وإنكار الواقع، والمزايدة على الأساتذة والطلاب بتعليم حضوري نفتقد إلى أبسط شروطه، تطيح بأي دور اجتماعي وتربوي للجامعة، وتطيح بالجودة العلمية أولًا وأخيرًا. إن صرحًا يحوي ما يقارب 70% من المتعاقدين الذين يضطرون للعمل في عدة أشغال لتأمين حاجيات عائلاتهم الأساسية، ومجموعة مدربين لا يتقاضون رواتب شهرية وإن متدنية، سيكون حتمًا على حساب الإنتاجية وعلى أبسط قواعد الانتماء إلى مؤسسة. كما وأن الرواتب التي يتقاضاها الأساتذة والموظفين (بعد مضاعفتها في الموازنة) لا تكفي لفاتورة الاشتراك الكهربائي ومصاريف التنقل من وإلى الجامعة، فتجبرهم جميعًا بالبحث عن أعمال جديدة يستطيعون عبرها تأمين أبسط شروط العيش الكريم. بالإضافة إلى أن المس بحرية الأساتذة والطلاب، سيمتد ليطال الحريات الأكاديمية، ما يقوّض إبداع الأساتذة والطلاب في أبحاثهم. 

في بلد ينهار وتُنتهك القوانين فيه بشكل يومي… وفي بلد يتم مصادرة مبلغ 52 مليون دولار طازج فيه بدل فحوصات من قبل بعض الشركات المشغلة لمطار بيروت الدولي وهي من حق الجامعة اللبنانية… وفي بلد تقلِّد فيه كافة المؤسسات سلوك السلطة لناحية مد اليد إلى جيب الطرف الأضعف لمعالجة المشاكل (زيادة تكلفة التسجيل على الطلاب)، دون مواجهة من يصادر حق الجامعة، ولا مواجهة من يقضم المال من ميزانية الجامعة… وفي جامعة لا علاج جدياً لمشاكلها، بل تعاني منذ مدة طويلة جرّاء الإضرابات بسبب عدم تلبية مطالبها الأساسية، بما ينهك الجامعة والأستاذ والطلاب والموظف سويًا… وفي بلد لا تعالَج مشاكل موظفيه وتقنيّيه بشكل جدي، بل يُسامَح مَن سرق ونهب، ويُعاقَب من لم يكن له أي علاقة بالأمر... في كل هذه الشروط، من الصعب أن تعود الحياة الجامعية إلى طبيعتها، وذلك على خلاف ما يحاول رئيس الجامعة أن يفرضه أو يوحي به.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
الكنيست الإسرائيلي يقرّ ترحيل عائلات منفّذي العمليّات لمدّة 20 عاماً
إسرائيل تدمّر مبنى المنشية الأثري في بعلبك
جماهير «باريس سان جيرمان»: الحريّة لفلسطين
مطار بيروت يعمل بشكل طبيعي
فكشن

الدني بتهزّ، ما بتوقاع

عمر ليزا