إن الاحداث والشخصيات الوارد ذكرها في هذا النصّ هي من نسج الخيال تماماً.
في الليلة التالية لتشييع الشهيد فوّاز السمّان، انفجرت المدينة ونزل الطرابلسيون بعشرات الآلاف إلى الشوارع. مئات زجاجات المولوتوف رُميت على المصارف والمرافق الحكومية، وكانت ليلة الحريق الكبير. هكذا انطلقت في طرابلس مرحلة العنف الثوري والانقلاب على السلطة نحو استرداد العدالة المسلوبة.
الغالبية الساحقة من المنتفضين بعنف لا يأتمرون بأمر أحد. مجموعات شعبية تلقائية، وأخرى تشكّلتْ وتبلورتْ بعد انطلاق الثورة في 17 تشرين. لم يسلم منزلٌ أو مكتبٌ أو قصرٌ لنائب أو وزير حاليّ أو سابق من الحرق والتكسير.
تمكّنتْ قوّةٌ عسكرية من إخراج الثوّار من قصر نجيب ميقاتي بعدما أغرقوا حرّاسه بأمواج بشرية هائلة وجرّدوهم من أسلحتهم. لكنّ المساحة الممتدّة بين ساحة الشراع والقصر تحوّلت إلى متراس شعبيّ ضخم مصنوع من هياكل الآليات المحروقة وقطع الحديد الكبرى المستردّة من قلب فروع المصارف.
كذلك الأمر في المنطقة الممتدّة بين مسجد السلام ومنزل أشرف ريفي الذي هرب من المدينة في موكب أطلق النار على المتظاهرين وأوقع فيه أكثر من جريح. أمّا المساحة الأوسع التي سيطر الثوّار عليها، فكانت من خط التل- شارع المصارف، إلى خط محرّم- دوّار السلام، مروراً بساحة النور.
سقطت السرايا ومعها المصرف المركزي عند حوالي الثالثة فجراً، واحترق قصر كرامي بالكامل فيما تحوّلت دور السينما المغلقة منذ أعوام إلى مرافق ثوريّة.
سينما كولورادو التي شاهدتُ فيها أوّل فيلم في حياتي صارت مستشفى ميدانياً، وبالاس التي كانت تعرض أفلام البورنو في التسعينيات صارت مقرّاً لوجستياً لفرز المتطوّعين.
ساحة التلّ المزنّرة بالسيارات المحترقة تنظر إلى مخفر فارغ. يحاول الثوّار تجاوزها إلى مناطق النجمة وساحة الكورة، لربط نطاق تمركزهم بنقاط المواجهات المشتعلة في قوس واسع يمتدّ من مسجد طينال إلى سوق الخضار. لكنّ الجيش ركّز قوّته عند هذه الخطوط التي يخشى انفجارها أكثر.
عندما بدأت المساجد تبثّ ابتهالات الفجر مع اقتراب موعد الأذان، لم تكن أي طلقة رصاص قد خرجت باتجاه الجيش والقوى الأمنية. اقتصر الموضوع على المولوتوف، وبعض الأسلحة البيضاء والعصيّ في نقاط شهدت التحاماً مباشراً.
في المقابل، كانت أصوات الأنين في المستشفيات الميدانية تنافس صوت المقرئ صلاح الدين كبارة بعدما صارت المستشفيات الحكومية والخاصّة مصدر خطر أمني للثوّار المصابين. لكنّ ضجيج المواجهات والحرائق التي ربطت المدينة المقطّعة منذ عقود، تحوّل تدريجياً إلى صمت برائحة البارود والكاوتشوك، يشقّه صدى ضحكة هستيرية وكلمات غامضة من نقاش بين ثائرين يحاربون النعاس بقهوة السحور.
على فايسبوك، الرفاق غاضبون. ستنفجر البلاد. لن يترك الثوّار طرابلس وحيدة. انظروا هؤلاء هم الجياع. شاهدوا الجماهير وتعلّموا. ستكون خراباً. على فايسبوك أيضاً، الرفاق حائرون: يمكن بركي عن جد طلع في شي أكبر منّي ومنّك؟
اتكأت على القاعدة الباطونية لعمود كهرباء أصفر نصف متفحّم جعلتْه النيران مائلاً في عيني، وغفوت.
جعلتني هذه البلاد خبيرًا بصوتيات العيارات النارية أيضاً. حتى أنني استفقت على تنبّهي بأنّ ما سمعته للتوّ كان رشقات رصاص كثيفة من طرفيْن متقابليْن. رنّ هاتفي: ماما، ما تعتلي همّ أنا ببيروت ما في شي هون. فتحتُ الواتساب وجدت عشرات الفيديوهات المزيّفة والتسجيلات الصوتية المؤامراتية عن انتشار داعش في طرابلس وكمائن ميليشيوية ضد الجيش… سببت أمّ الدولة والأجهزة قبل أن تقاطعني رشقات نارية جديدة وأخرى، ثم دويّ انفجار.
إلى سينما بالاس، لأرصد الأحداث المتسارعة. في ساعتَيْ غفوتي، قامت أجهزة الدولة بعشرات المداهمات والاعتقالات في كافة أنحاء المدينة. خلال إحداها، حدث اشتباك مسلّح أسفر عن مقتل معتقلَين وعنصر في الجيش وإصابة ثلاثة آخرين بجروح خطيرة.
يقول الصديق الأوّل القاطن في منطقة الحدث إنّ مصدر النيران التي أطلقت على الجيش لم يكن من حارة المعتقلَين. أسمع من خلفي أحدهم يقول إنّهما من التكفيريّين فعلاً: ربّك بيعرف مين باعتهم هول تيخربوها. يردّ عليه آخر بقساوة اللكنة التخوينية. يحتدم ضجيج الجدال في قاعة السينما المفتوحة. المدينة مُغلقة. لن يستطيع أحدٌ أن يأتي للتضامن. أصوات الجنازير والطوافات تتعالى شيئاً فشيئاً.
أفتح فايسبوك للتصفّح. ناشط يساري يشارك ساخراً بوستاً من ناشط يمينيّ: لن يسكت المجتمع الدولي، والكثير من إيموجيز القهقهة. الرفاق حائرون.
…
رنّ هاتف الضابط «شمشون» في الجهاز «أ»:
- العوض بسلامتك سيدنا
قهقه الضابط كمارسيل غانم من خلف كمّامة.
- الله يسلّم عمرك أبو الليل، يعطيكن العافية. وصيام مقبول ههههههه
…
يا أهلاً بصندوق النقد الدولي. صندوق خوش آمديد. Welcome IMF to your second country.