بين ليلةٍ وأخرى في كسروان، انتقلت صورة وليد رعد من وجهٍ مُنكمش ونظراتٍ نحو الأسفل، إلى رأسٍ وقبضةٍ مرفوعَيْن فوق الرؤوس ونظرة الندّ للندّ. هكذا تتنوّع صفوف ثورتنا في اتجاهاتها الأيديولوجية والعملياتية، ولكنها تجتمع على رغبةٍ في عكس اتجاه شرعية الحكم ليكون من تحت إلى فوق. أي أن تكون المصلحة العامة، على الرغم من الاختلاف في مقارباتها، محرِّكاً وحيداً للقرار. لكنّ النظام اللبناني القائم أصلاً على دونيّته تجاه القوى الكبرى، يقاوم هذا الانقلاب الحاصل في اتجاه الشرعية، ليحافظ على نفسه متلطياً خلف عناوين «مواجهة التحدّيات».
في الأشهر الأخيرة، دوّى داخل مزبلة التاريخ صدى سقوطَيْن: اتفاق الطائف واتفاق أوسلو. هذان الانهياران، وإن كانا لم يتكرّسا بعد في الوعي العام، هما وجهان محليّان من أوجه كثيرة لإعادة تشكّل النظام العالمي، نحو قواعد جديدة للتوازنات الدولية. ولأنّ الدولة العميقة في شبكة الحكم اللبنانية الضعيفة المرتهنة، هي بالفعل في يد الوكالات الإقليمية للنظام العالمي، يتّجه التحالف الميليشيوي-المالي في لبنان إلى إعادة هيكلة نفسه بعدما وضعته الثورة أمام الحتمية التاريخية للتغيير.
متستّراً بعنوان «إصلاحي»، يسعى التحالف الحاكم إلى إعادة تركيب نفسه على 3 جبهات أساسية: مالية، وسياسية وأمنية.
ماليّاً، تقوم إعادة الهيكلة المالية من خلال سياسات صندوق النقد الدولي على تكريس اتجاه الأولوية السياسية هبوطاً لا صعودًا: الدائنون في الخارج، المصارف، وأخيراً المواطنون كصغار مودعين ومستهلكين. فالحكومة التي تبنّت ورقة الحريري «الإصلاحية» مُقبِلة كما يبدو على المزيد من الضرائب التي ستطال عامّة الناس، ومن الرسوم على خدمات كالمياه والكهرباء والاتصالات، واقتطاعات كبيرة من وظائف القطاع العام، بموازاة تضخّم متزايد في الأسعار وإجراءات تعديلية على منهج عمل البنك المركزي والقطاع المصرفي بهدف حماية هذا الأخير.
بإمكان تجارب صندوق النقد السابقة في بلاد كثيرة، ومنها الدول العربية التي عاشت ثورات العام 2011 مثل مصر وتونس، أن تختصر لنا المشهد الاقتصادي الذي تعدنا به السلطة: أزمات حادّة تعمّق الفجوات الطبقية، مقابل إنقاذ النخبة المالية وتصعيد ارتهان الاقتصاد للسوق العالمية ومراكز قوّتها الكبرى.
أمنيّاً، ولذلك، فإنّ هذا التحدّي الوجودي للسلطة يتطلب التصدّي لتحدٍّ آخر، هو الأمني. فالحكم يعرف جيداً مدى الغضب الشعبي الذي سيقابل هذه الإجراءات «الموجعة»، وهو أصلاً في استنفار أمني منذ أكثر من 3 أشهر أمام ثورة لم ترَ لها البلاد سابقةً. هذا ما أشار إليه إصبع السلطة منذ تشكيل الحكومة، بتعيين وزير داخلية يجمع في آن بين خلفية عسكرية وأخرى مصرفية. لم يتأخّر محمد فهمي ليوضح لنا نيّاته، فأعلن تقديره لسلوك القوى الأمنية، ولم تكن أيام حتى بيّن على الأرض إدارةً مختلفة تماماً للميدان.
ويبدو أنّ الهيكلية الأمنية المستجدة تشهد دوراً مختلفاً وأكثر «صرامةً» للجيش عمّا كان حتى مرحلة التأليف، وانتقالاً من عقلية «أمنية» للفضّ إلى عقلية أكثر عسكرة بالمحاصرة والكمائن والتخفّي. كما تسحب المواجهة إلى خارج ميادين التظاهر نحو الملاحقة والاستدعاءات، فيما تفعّل أكثر شبكات اختراقها.
سياسيّاً، أمّا على المستوى السياسي، فأوّل ما يلفت النظر اتّجاهٌ يتّضح أكثر فأكثر لدى حزب الله نحو تعزيز قوى سياسية غير بعيدة عن فلكه العام، خارجة عن عباءاته العقائدية والتنظيمية ولكنه يضمن عدم وقوفها في وجه مصلحته الوجودية الكبرى. وتأتي هذه النزعة من ارتفاع التكلفتين الشعبية والسياسية للتحالفات التاريخية القائمة للحزب، وتحديداً مع العونيين و«أمل». على المقلب الآخر، يبدو انهيارعامّ للتحالفات الحريرية- القواتية- الجنبلاطية مع بروز القوات كأقل الخاسرين، تحديداً في لعبة الوكالة للقوى العالمية والإقليمية. لكنّ الأطراف هذه تعيد تنظيم صفوفها أيضاً من خلال واجهات جمعياتية ووجوه ميدانية جديدة، تأمل في أن تمكنّها من استثمار الدفع الثوري لمصلحتها. وفي الحالتين، تبقى إعادة الهيكلة السياسية هذه لدى المحورَيْن الوكيلَيْن كخطوات تمهيدية بطيئة في انتظار استيضاح ما ستستقرّ إليه التجاذبات العالمية الكبرى التي سيشهدها العام 2020، واستعادة التوازن.
وفيما تتيح لنا الإجراءات الاقتصادية المأسوية التي ستفرضها السلطة فرصة تأجيج المواجهة والحشد لها، قد تفتح لنا الفراغات السياسية الناتجة عن إعادة الهيكلة المرتهنة فرصةً ذهبية في العمل السياسي الثوري إذا صوبّنا بوصلة الشرعية السياسية جيداً، من تحت إلى فوق.
فحملات وزارة العمل المقبلة لحضّ اللبنانيين على اتخاذ أعمال «لا يعملون فيها عادة»، وتحميل اللاجئين مسؤولية الفشل السلطوي، ومحاولات شدّ العصبيات، ليست إلا سعياً إلى توجيه أنظار الشرائح الأكثر هشاشةً في المجتمع نحو ما هو أضعف منها وتصويره كمنافس على الموارد، التي سرقتها الدولة أصلاً! من فوق إلى تحت.