تسليح القضايا وحقيقتها
الحرب ليست عسكريةً وحسب، هي أيضًا أيديولوجية، تُخاض على أرض الخطاب وتمثيل الصراع وتصوير الخصم. منذ اندلاع الحرب، والماكينة الإسرائيلية لم تكفّ عن اتّهام حركة حماس بارتكاب شتّى أنواع الجرائم والفظائع، ليتبيّن لاحقاً أنّ بعضها مفبرك أو من نسج الخيال، وبعضها الآخر محاولة لتصوير حماس كالشرّ المطلق.
في الأسبوع الأخير، برز اتّهام جديد، مفاده أنّ عناصر من حركة حماس قاموا بعمليات اغتصاب إثر هجوم 7 أكتوبر، اتّهامات رفضتها الحركة. عمّمت الماكينة الإسرائيلية القضية لتتحوّل إلى مادة جديدة في حربها الإعلامية، خاصة بعد الفشل المتكرّر في تبرير الإبادة في غزة. فتبنّى عدد من السياسيين الغربيين ووسائل الإعلام الرواية الإسرائيلية، وأضافوا «الاغتصاب» على لائحة اتّهام حماس اللامتناهية. ورغم تشكيك عدد من المراقبين بالرواية أو جوانب منها، باتت قضية «الاغتصاب»، كقضايا أخرى قبلها- مثلًا قضية «قطع رؤوس الأطفال»- جزءاً من السجال العام.
لا تهدف هذه المقالة إلى البتّ بحقيقة تلك الاتّهامات التي لا يمكن الوصول إليها إلّا بعد تحقيق عادل وشفاف، وهو ما ترفضه الحكومة الإسرائيلية. فبغض النظر عن حقيقة الاتّهام، نحن في صدد تسليح لقضايا من أجل تبرير عملية إبادة، كما جرى من قبل من خلال تسليح حقوق المثليين/ات من أجل تبرير نظام فصل عنصري.
التسليح يعني تحويل قضايا محقّة أو جرائم مروّعة إلى دوافع ومبررات لعملية عسكرية، حيث يصبح الرد العسكري هو الرد الوحيد عليها. ألم يبرَّر احتلال العراق بضرورة نشر الديمقراطية، وأفغانستان من قبلُ باسم تحرير المرأة؟ فبهاتين الحالتين، شهدنا على «تسليح» لقضايا من أجل تبرير عملية عسكرية، كانت أهدافها في غير مكان.
منذ بداية الإبادة، تحاول إسرائيل تجنيد رأي عامّ وراء مشروعها. لم تنجح في ذلك، رغم اصطفاف غالبيّة الحكومات ووسائل إعلامها وراءها. التسليح هو استجابة لهذا المأزق وليس دفاعًا عن قضايا أو إحقاقًا لعدل. فقضية الاغتصاب ليست موجهة للخصم الفلسطيني والعربي أو للداخل الإسرائيلي، هي موجهة أولًا للرأي العام الغربي والمؤسسات الدولية من أجل إحراجهم للقبول بالإبادة.
رفض تسليح القضايا يبدأ من رفض السجال الإعلامي المعلّب ومعاييره. فالسؤال ليس من يعادي السامية أو يناصر المثليين/ات أو يدافع عن النساء في وجه الاغتصاب، السؤال اليوم هو عن إبادة قيد الإتمام، باتت تسلّح وتجنّد كل القضايا من أجل الانتهاء من مهمتها.
«الحضارة» في وجه الأرض
ليست هذه المرّة الأولى التي يتمّ فيها تسليح قضايا متعلّقة بالنساء من قبل سلطات الاحتلال لتبرير عدوانها. فقبل بضعة أسابيع، هاجم السفير «هيئة الأمم المتحدة للمرأة» لتقاعسها عن إدانة حماس لقتلها نساء. تلت هجومَ السفير حملة على مجموعات نسوية من الدعاية الإسرائيلية تنتقدها لما اعتبرته تمييزًا ضد «النساء اليهوديات» اللواتي لم يحظينَ بدعم من يناهض العنف ضد النساء.
تأتي اتّهامات الاغتصاب ضمن محاولة الدعاية الإسرائيلية لتصوير الحرب وكأنّها حرب «حضارية» بين من يعادي النساء ومن يدافع عن حقوقهنّ أو بين من يقطع رؤوس الأطفال ومن يدافع عنهم، من يرمي المثليين من أعلى السطوح ومن يؤمّن لهم ملاذهم الوحيد في المنطقة. هذه ليست المرّة الأولى التي تحاول الماكينة الصهيونية إعادة تصوير استيطانها بدواعٍ «حضارية»، لتقدّم إسرائيل وكأنّها «استثناء» أخلاقي في منطقة قابعة تحت العنف والتخلّف والرجعية.
فمنذ نشأتها، ومنظِّرو الصهيونية يحاولون تقديم دولتهم الحديثة كجزيرة من الحضارة الغربية في بحر من التخلّف العربي والإسلامي، وهي مقولة قَبِل بها حتى بعض اليسار الأوروبي في البداية. لم يكن هذا الإحساس بالتفوّق الحضاري موجّهاً فقط ضدّ الخصم العربي، بل طال أيضًا اليهود المشرقيين الوافدين إلى إسرائيل.
مع تقلّب الخطابات الغربية، تأقلمت الدعاية الإسرائيلية لكي تلائم تطلعات هذه الخطابات. فتحوّلت إسرائيل إلى «الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط» في عصر الديموقراطية في التسعينات. ومع صعود خطابات التحرّر الجنسي والجندري، ظهر خطاب «الغسيل الوردي» الذي قدّم إسرائيل كقلعة لحقوق المثليين/ات في منطقة تقمع الأقليّات الجنسية.
بكلام آخر، تأقلمت إسرائيل مع متطلبات الخطابات الغربية لكي تقدّم نفسها كحاجة «حضارية»، وتستبدل خطاب الأرض والحقوق بخطابات حضارية. ويهدف هذا التصوير للصراع إلى تبرير وجود إسرائيل وعنفها من خلال هذا البعد «الحضاري»: إسرائيل لا تبني نظام فصل عنصري يمارس الإبادة للدفاع عن تفوّق جماعة على أخرى، بل تدافع عن آخر معقل من الحضارة في بحر من التخلّف. ومن أكثر الصور وضوحًا لمقايضة الإبادة بالدفاع عن بعض القيم الأخرى، صورة جندي يرفع علم قوس قزح على ركام غزة، صورة أثارت رفض مجتمع الميم-عين لما تتضمنه من تسليح لقضاياه.
تأتي اتهامات الاغتصاب في هذا السياق، سياق تحويل الموضوع من إبادة قيد الإتمام إلى صراع «حضاري» بين من يدافع عن النساء ومن يعنّفهنّ، أي كما وصفه نتنياهو صراعاً بين «أبناء النور وأبناء الظلام».
لا تريد إسرائيل من العالم، وخاصةً الغرب، مجرّد دعم عسكري أو دبلوماسي، بل باتت تطالبه بمشاركتها في شيطنتها الرخيصة للخصم الفلسطيني. هي تريد من العالم أن يعتبر الفلسطينيين «إرهابيين»، «مغتصبين»، «قتلة أطفال»، «كارهين للحريات»، «دواعش»، «نازيين». أيّ بكلام آخر، تريد أن يصبح العالم بأكمله إسرائيليًا. لكنّها تواجه في ذلك المطلب معضلتين:
الأولى هي أن الغرب، وإن قدّم دعمًا سياسيًا وماليًا وعسكريًا مهولاً، لا يبدو متحمّسًا لتبنّي خطاب كهذا بأكمله، مع ما يعنيه ذلك من قبول لأكاذيب وتلفيقات واستنسابية. أو بكلام أدقّ، هناك بؤَر اعتراض في الغرب ما زالت ترفض الرواية الإسرائيلية، رغم تهم «معاداة السامية» التي واجهتها، وما هذه الحملات الدعائية إلا لتُوجَّه ضدّ تلك البؤَر.
أما الأزمة الثانية، فهي إسرائيلية. فرغم محاولة نتنياهو تقديم نفسه كإبن النور والمدافع الأخير عن الحضارة الغربية، من الصعب إعادة تدوير حكومته المتعصّبة دينياً والعنصرية إلى حد الإجرام والمتحمّسة للإبادة كمعقل للتنوير والدفاع عن الحريات. كما يصعب على هذه الماكينة تدوير الأصوات الإبادية التي تخرج من المجتمع الإسرائيلي وتقديمها «كأبناء النور» الذين يواجهون «أبناء الظلام».
حاجة إسرائيل إلى خير وشرّ، ليست حاجتنا
منذ بداية العدوان، تحاول الماكينة الإسرائيلية تصوير ما يجري كصراع بين «الخير» و«الشر»، لاستمالة أكبر عدد من الناس وراء مشروعها الإبادي والتهجيري. فمن الصعب تبرير مشروع كهذا بأقلّ من ذلك. لذلك، فإنّها بحاجة إلى شيطنة خصمها وسحب أي إنسانية منه كمقدّمة لقتله.
ثنائية «الخير والشر» هي حاجة للقاتل، وليس للضحية.
فمن يقف في وجه هذه الماكينة، لا يحتاج لثنائيات كهذه. هو قادر على الاعتراف بإخفاقات «طرفه»، وحتى بإجرامه إن ثبت، وهو قادر على الفصل بين التنديد بانتهاكات وجرائم إن حصلت والتمسّك بعدالة القضيّة الفلسطينية والحق بالمقاومة المسلّحة. بل بالعكس، فإنّ اعترافاً كهذا يعزّز عدالة قضيّته.
المتمسّك بثنائيّة «الخير والشرّ» هو الجلّاد. أمّا الضحية، فلها العدالة، عدالة يمكن أن تمتدّ لتضمّ كل الضحايا من دون أن تقلّل من دعمها للقضية.