«كلّ ما يأخذه الاقتصاد من حياتك وإنسانيّتك، يستبدله بصورٍ وتمثيلات؛ كلّ ما لا يمكنك فعله، تستطيع أن تتفرّج عليه»
بودوان دو بودينات، الحياة على الأرض
كيف لا يمكنني اليوم أن أذكّر بأنّ عنف السلطات الفعلي والعميق (أشدّد على صيغة الجمع، مهما كانت الحكومة القائمة) مدمّر أكثر بكثير من العنف المهيب جداً بالتأكيد والنابع عن مختلف قوى الأمن وعن أجهزة المخابرات المختلفة وغيرهم من العملاء المعروفين بالبلطجيين؟
عنفٌ لا يرحم، بعيداً من عدسات الكاميرا ومن الأضواء المسلّطة وخارج حقل الرؤيا.
عنفٌ يوميّ ومستمرّ لا يترك جرحاً ظاهراً ولا يخلّف أثراً فورياً.
عنفٌ يُمارَس على كافة المستويات منذ زمن بعيد جداً، حتّى في أصغر ركنٍ من أركان هذه البقعة المتوسطيّة الصغيرة، وخارجها أيضاً.
عنفٌ لا يترك أيّ شيء للصدفة، بل ُيخضِع بلا كلل وبطريقة مباشرة وغير مباشرة كلّ شيء وكلّ الناس للقواعد المستعصية التي تنظّم المجتمع والسوق، والعرض والطلب، والمحسوبية والفساد، ويصدّ أو يهمّش كلّ الذين لا يستطيعون أو لا يريدون أن ينحنوا، إذ أنهم يُعتبَرون أرواحاً عقيمة، عديمة النفع، فائضة وحتى خطيرة. لا أحد ينجو، لا أحد ولا شيء يُفلت من الرغبة المُفرطة في الربح، كلّ أشكال الربح المادي والملموس. ونحن نعرف أنّ لا وجود للربح القليل.
عنفٌ شديدٌ يُرغم العديدين، إن لم يكن الأغلبية الساحقة، على الخضوع للتفاوتات المُدهِشة التي لا تنفكّ تزداد، وعلى تأمين الحاجات الضرورية اليومية فحسب، إن لم تكُن الحاجات الملحّة.
عنفٌ يرغمهم على أن تُمَصّ دماؤهم من أجل الولوج إلى استشفاء محترم وإلى مسكن مقبول وإلى وسائل النقل والمياه (التي لا تصلح للشرب علاوة على ذلك)، وإلى حاجات أخرى كثيرة، ناهيكم بالمنهج التربوي الكارثي (أكان في المدارس الخاصة أو الحكومية) الذي يلقّن العقول في سنّ مبكرة جدًا (أليست أغلبية المدارس، حتى العصرية منها، أشبه بثكنات عسكرية أو ثكنات شرطة؟)، فهي تقيّد المسارات والطموحات الناشئة، كي تصبح ممتثلة قدر الإمكان، نموذجيّة، ناهيكم بغسل الدماغ المستمرّ الذي تقوم به المؤسّسات الدينية الكثيرة.
عنفٌ فظيعٌ يمنعنا من الرؤيا، ومن التنفُّس خارج الحياة اليومية، عنف التواتر الجنوني الذي يتّبعه هذا الاقتصاد المذكور (مهما اختلفت مدارسه، مدرسة ليبيرالية أو ليبيرالية جديدة، تقليدية أو غير تقليدية) والذي تتبعه أيضاً تشعّباته السياسية والمالية العديدة، الديون من كافة الأنواع ومن كل حدب وصوب، مستعملاً باستمرار الابتزاز الاجتماعي على شتى المستويات، دافعاً إيّانا حرفياً على الدوس على جثّة الآخر، ولا يهمّ إذا كانت الجثة حديثة العهد أم لا. وحدهم المستحقون سيحصلون على مكانهم.
عنفٌ شديدٌ لا ينفكّ يُرغمنا على التقيّد بـ«واجباتنا» كمواطنين وكمستهلكين فيما يقلّص إلى حدّ بعيد (أي أنه يُبطل كلياَ) أغلبية حقوقنا، رغم وجود قوانين يُفترض بها حمايتنا والتي يُفترض بأن تضمنها الدولة (يجب أن نقوم يوماً ما بجردة للقوانين العديدة واللامتناهية التي يُفترض بأن تكون بخدمة الفرد والمجموعة، والتي بقيت حبراً على ورق، رغم أنها قوانين معتدلة جداً، كالنصوص الكثيرة التي تمّ التصويت عليها في الأمم المتحدة أو حق النقض الذي لجأت إليه الولايات المتحدة الأميركية مراراً في ما يتعلّق بفلسطين).
حتّى أصغر بقعةٍ من الساحل، حتّى أصغر مترٍ مربّع من المدن والقرى، حتى أصغر سفح من الجبال، حتى أصغر ركن من الأودية والحقول والمناطق الداخلية؛ الأراضي والأنهر والبحيرات والبحر والسماء لا تنفكّ تتحمّل العنف المتعذّر الوصف الذي يولّده الربح. «من بعدنا الطوفان»، هذه هي ترنيمتهم الوحيدة.
تخريب المصارف وصرّافها الآلي والممتلكات الخاصّة المقدّسة (بما أنّ الممتلكات العامة غير موجودة بالطبع أو أنها معطّلة أو منهوبة على نحو واسع)، غضبنا الذي نعبّر عنه برمي المفرقعات والحجارة، والزجاجات البلاستيكية الفارغة، لا وزن له في هذه المعادلة. فكما كُتب على أحد الجدران: فات الأوان على الهدوء.