تعليق فرنسا
سامر فرنجية

الكتابة بالمسطرة

3 تشرين الثاني 2020

هناك حرب في شوارع فرنسا، حرب دائرة منذ عقود، تخاض على وقع ذبح أستاذ من هنا وقوانين من هناك، على شيطنة دولة وأشكلة جماعات، حرب يشكّل الخطاب أحد مسارحها الأساسية.

لا نريد أن نعترف بها، «نحن» غير المعنيين بها. فلسنا حرّاس العلمنة الفرنسية، مهما أردنا أن نعيد اختراع أنفسنا كورثاء للتنوير، ولسنا المتكلمين الرسميين باسم إسلام سياسي لا يحتاج لترجمة علمانية لخطابه. نكتب عنها بـ«المسطرة»، باحثين عن الموقف الصحيح والدقيق في حقل الألغام الخطابي الذي أنتجته عقود من الكتابات عن هذا الموضوع، موضحين بين كل فكرة وأخرى أنّنا لا نتبنّى القتل أو السياسات الاستعمارية الفرنسية أو ماكرون أو الإسلام أو الحجاب أو رفض الحجاب...

الكتابة كالبحث عن النقطة الصفر في هذه الحرب.

لا نريد أن نعترف بها لأنّنا لا نفهمها، نحن غير المعنيين بها، لا نفهم أطرافها. ومع كل حادثة قتل أو قانون جديد أو رسم كاريكاتوري، يبدأ مشوار البحث عن أطرافها المتنازعين.

إنّه الإسلام المأزوم. ليس هناك من إسلام موحّد. الإسلام بريء من هذه الأفعال. مَن يبرّئ مَن. ليس الإسلام مَن ارتكب هذه الأفعال، بل مسلمون. هل هم مسلمون أو مهاجرون من أصول إسلامية. أجيال المهاجرين إلى فرنسا، الجيل الثالث أو الرابع؟ هل هم مهاجرون أو مهاجر؟ هل في أفعال فرد معزول من أصول شيشانية؟

ثمّ المشوار المعاكس:

البداية مع خطبة ماكرون البلهاء والخطرة. لكن لهذه الخطبة سياق، عمره من عمر تواطؤ الطبقة السياسية مع خطاب اليمين المتطرف وازدياد السياسات المعادية للإسلام كثقافة. بيد أنّ لهذا التواطؤ جذوراً تاريخية تعود لإرث فرنسا الكولونيالي وعلاقتها المتوترة مع جاليات تلك الدول التي أنهكها الاستعمار. ولكن لماذا التوقّف هنا؟ فالاستعمار والسياسات العنصرية وخطبة ماكرون، كلها نابعة من فوقية واستشراق «علماني»، برّر وقونن وشرعن هذه الممارسات على مدار عقود. وما زال…

نصفُ المقال دون أي تحذير، وبالتالي خطورة أن يعتقد القارئ أنّني أميل لموقف أو لآخر: أنا لا أتبنى القتل ولا الممارسات العنصرية ولا ماكرون ولا شيشينيا ...

بالعودة إلى الحرب. نكتب «بالمسطرة»، باحثين عن هوية الأطراف المتنازعة، ريثّما نجد ما يعنينا بهذه الحرب التي فُرِضت علينا، تطالبنا بـ«موقف»، اليوم قبل الغد. ولا يمكن أن نطالبها بوقت إضافي، فبات لها عقود تُخاض على وطأة كتابات ونظريات لم تعد تحصى. فميزة هذه الحرب هي تكرارها، تكرارها الدموي ولكن تكرارها الكلامي والعبثي، وكأن كل ما يمكن أن يقال قد قيل، وكأن أي كلمة تكتَب هي، وبغض النظر عن التحذيرات كلها، وقوع بالاصطفاف الذي تحاول الهروب منه.

تشبه هذه الحرب وقائع مأساة معلنة، نراها تتّجه لا محالة نحو الأسوأ. فسيأتي إرهابي آخر، وستفرض الدولة سياسات عنصرية جديدة، وسيتم أشكلة الجاليات الإسلامية أكثر، وسيتعمق التواطؤ مع اليمين المتطرف وخطابه، وستستغل دول إسلامية هذا التوتر من أجل مصالحها الخاصة، وسيطلق كم أبله حملة مقاطعة... سيحدث كل هذا والجميع يؤكدون أنّهم ضد القتل والإرهاب والعنصرية والكولونيالية... وكأنّ هذه الحرب تدور بين طرفين خفيّين، يختبئان وراء كل كلمة أو حدث، وينقضّان على أي محاولة لإدخال بعض من التعقيد أو المسافة إلى النقاش، فارضين السؤال الوحيد: معنا أو ضدنا؟ و«نحن»، مع مسطرتنا، نلبس الطرفين صفة «الفاشية»، الإسلام الفاشي في وجه العلمنة الفاشية، وننسحب من هذه الحرب بانتظار المذبحة القادمة.

مقطعان آخران من دون أي تحذير: أنا لا أتبنى القتل ولا الممارسات العنصرية ولا ماكرون ولا خطابه ولا إردوغان…

ننسحب لكي نبحث عن مكان في ضواحي هذه الحرب، إلى جانب الضحايا المذبوحين والجاليات المضطهدة وكل من سيقع ضحية هذه الحرب. نبحث عن مكاننا، ولكن نبحث عن الوقت أيضًا، الوقت الذي نحتاجه لكي نعاين مدى الدمار والأسى، الوقت الذي يسبق أي موقف، الوقت الذي يفصل بين موقف حربي وآخر إنساني. قد لا يكون هذا الموقف بالراديكالية الذي يطالب بها البعض، وليس بذكاء المنشورات العديدة التي نُقصف بها كل يوم. لكن ليس لدينا أكثر من هذه البساطة لنقدّمها اليوم. وإن سُئلنا بعد سنوات عمّا كنّا نفعله عندما اندلعت الحرب، يمكن على الأقل أن نقول «سكتنا من أجل ضحاياها القادمة».

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
فيدان والشرع عن قسد: لا مكان للسلاح خارج الدولة
تخطيط قيمة حياة فتاة عشرينيّة مقيمة في بدارو
وزير الدفاع الإسرائيلي يزور جنود الاحتلال في جنوب لبنان
وليد جنبلاط في سوريا
جيش الاحتلال يحاصر مستشفى كمال عدوان ويهدّد بإخلائه
الاحتلال يجرف بساتين الليمون في الناقورة