تعليق ميشال عون
سامر فرنجية

الكوليرا القادم والرئيس الراحل

31 تشرين الأول 2022

الانهيار لا يأتي على شكل خط مستقيم انحداري. 

ربّما يبدو الأمر كذلك عن بعد. لكن من داخله، من داخل إيقاعه المتكسّر والمتغيّر، يبدو الانهيار وكأنّه مكوََّن من طبقات أو مراحل: مرحلة انهيار سريع يواكبها إدراك أليم بالقعر، تليها مرحلة تأقلم أو استراحة، يحاول خلالها مَن بقي هنا أن يرمّم حياته ويلتقط أنفاسه، هذا قبل مرحلة الهبوط التالية.

نتذكر صدمة أول انقطاع للكهرباء والإدراك بأنّنا خرجنا من عصر الكهرباء، قبل أن تبدأ عملية التأقلم مع مجتمع «الخمسة امبير»، وموتوراته وبطارياته وطاقته الشمسية. كما نتذكر لحظة قرار المصارف تقنين السحوبات وما واكبها من إدراك بأنّ مستقبلنا بات من الخسائر التي لن تعوض، قبل أن نتأقلم مع اقتصاد «الفريش» وصرّافيه وأسعار صرفه المتعدّدة والمتناقضة. نتذكر لحظة الطوابير والانفجار وانهيار العملة وانقطاع المياه وغيرها من اللحظات وما واكبها من إدراك مؤلم بأنّ لا مفرّ من الارتطام بالقعر المؤلم.

لكن بعد كل انهيار، تأقلمنا، وجدنا الحلول العوجاء، استغنينا عن بعض من الطموح والكثير من الحقوق، أعدنا اكتشاف مواهب موروثة من أيّام الحرب. «صمدنا»، كما يحب أن يردّد منظّرو محور الممانعة، أو محور الكوليرا. أو تأقلمنا مع الخرا، كما يفهمها معظم الناس. فالصمود، كفعل البقاء هنا، ليس فعل مقاومة. هو مجرّد البقاء قيدَ الحياة هنا. كل ما نفعله هو تجنّب الإسهال الحادّ. ما من بطولة هنا، ولا صمود، ولا مقاومة.


الهبوط ومكانه

يشكّل «الكوليرا» عنوان مرحلة الهبوط الجديدة. 

يأتي الوباء الجديد، والذي بات له تقريره اليومي الخاص من وزارة الصحة، ليدفع ببقايا المجتمع، إلى ابتكار طرق جديدة لحماية ذاتها من الموت البنيوي المفروض عليها، هذه المرة من خلال آلاف ليترات «الكلور» التي سترمى في الخزانات. مرحلة جديدة من الانهيار، حلول جديدة لتفادي إسهال جماعيّ قاتل. 

وبعيدًا عن رمزية عودة وباء الكوليرا (وقد أعدمنا الرمزية في السنوات القليلة الأخيرة)، يشير انتشاره إلى واقع مادي جديد، قد يؤسس إلى إعادة ترتيب للخارطة العمرانية. فمع كل مرحلة انهيار جديدة، ينكشف مدى انهيار البنى التحتية الوطنية واستحالة إصلاحها، وبالتالي صعوبة الحياة في تجمعات سكانية كبيرة، تحتاج إلى بنى تحتية معقّدة وإدارات مركزية متطورة، باتت اليوم بعيدة المنال. 

بكلام آخر، إذا بات على البؤر المجتمعية، مختلفة الأحجام، تدبير أوضاعها الحياتية، من إنتاج الكهرباء إلى تأمين المياه والحصول على المواد الأوليّة، فهذا يستحيل في مدن مهترئة، فقدت أي تراث لتنظيم أحيائها. قد لا يُنتج هذا المنحى التدميري للمركز «إدارات محلية»، لكنّه سيغير الخارطة العمرانية ومعها طبيعة السياسة في لبنان. 


التأقلم وزمانه

بعد الصدمة ومع الزوال التدريجي للخطر الداهم، تبدأ لحظة التأقلم، لحظة بناء، من دون إدراك، هذا المجتمع الجديد «غير المركزي»، لحظة مدّ شبكات الكهرباء الرديفة ورسم مسارات المياه الجديدة وإعادة تموضع الأحياء والخروج المرحلي من المدن. 

هي لحظة وليدة الحاجة، تأتي من دون تخطيط أو حتى رغبة في بناء مجتمعات غير مركزية. لكنّها ليست لحظة صامتة. فيسودها صوت دفين، خافت، لئيم بعض الشيء، يأخذ شكل سؤال بسيط: لماذا؟ البعض استشهد لكي يحاول إسكات هذا السؤال. لماذا كل هذا التعب؟ لكنّ السؤال، ببساطته بات أقرب إلى وسواس. لماذا علينا القيام بكل هذا؟ ومع كل خطوة في التأقلم، نتذكر تأقلم الجيل الذي سبقنا: السلّة التي أخذت مكان المصعد، الحوض الذي تحوّل إلى خزان، «اللوكس» الذي أضاء الليالي… ربّما باتت تقنياتنا متقدّمة بعض الشيء عن الثمانينات، لكنّنا نتشارك مع هذا العقد بنية الطموحات، والتي يمكن تلخيصها بمجرّد الاستمرار على قيد الحياة. 

لماذا؟، خاصة أنّنا نكرّر، نعرف كيف ستنتهي الأمور. فما نعرفه إنّنا لسنا قيدَ الحياة، نحن فقط نحجز فترة من الزمان، نملأها كي لا يملأها الفراغ، ريثما يأتي جيل من بعدنا، يمكن أن يستفيد مما بنيناه لكي «نصمد»، من شبكات الكهرباء الرديفة إلى ليترات الكلور. لكن على الأرجح لن يأتي أحد، كما لم يرث أحد جيل الثمانينات. فإذا كان الهبوط يقضي على المكان، فإنّ التأقلم يقضي على الزمان. 


الرئيس وكراهيته

في ظلّ هذا التحطيم للمكان والانحلال للزمان، خرج رئيس مهترئ من قصره ليعود إلى منزله الأخير، بعد انتهاء ولايته التي أخذت أكثر من ثلاثة عقود لكي تتحقق ومعها آلاف القتلى ودمار لا مثيل له. لم ينتبه الرئيس المنتهية صلاحيته إلى الخراب من حوله، وهو في موكبه الوداعي. لم يلاحظ الفوارق في المشهد بعد ستّ سنوات من رئاسته، لم ينتبه إلى الظلام، لم يرَ الطوابير، لم يسمع صراخ من يغرق في البحر، لم يحسّ بجوع الأهل. فهو ومَن حوله قد غادروا الحاضر منذ عقود، ولم يكترثوا لما قد حصل فيه. ربّما لم يدخلوا الحاضر أصلًا، وبقوا عالقين في لحظات جنون حروب التحرير والإلغاء، محاولين تكرار هذه اللحظة إلى ما لا نهاية. أو ربّما يدرك الرئيس الفشل الذي باتت ولايته العنوان له، فلم يبقَ له طريق لمواجهة هذه الخيبة إلّا الهروب من الحاضر، وترداد ترّهاته عن إصلاحه الممنوع. 

لن يُكتب الكثير عن هذا الرئيس اللعين. فولايته ومساره السياسي باتا جزءاً من رواية الانهيار، لا مكان لهما خارجها. لا مكان لإنجازاته وفكره وبطولاته وخياراته وتضحياته، مهما حاولت ماكينته الإعلامية تأكيده، خارج رواية الانهيار والجوع والغرق والانتحار والموت. ولايته المنتهية البارحة، باتت تُلخَّص ببكتيريا الكوليرا والإسهال الآتي، وآلاف ليترات «الكلور» لن تغيّر هذا الواقع. 
لن يكتب الكثير عن هذا الرئيس من جهنم أيضًا لأنّ التركيبة التي أوصلته إلى سدّة الرئاسة، من محور الممانعة إلى نظريات «تحالف الأقليّات» مرورًا بترّهات محاربة الفساد، أصبحت منتهية الصلاحية، أو مرادفاً لعملية قتل وتدمير لا حدود لها. فليس من فائدة للعودة إلى هذا التاريخ إلّا لفهم التاريخ السياسي لوباء الكوليرا.

ربّما كان ما سيبقى من هذا الرئيس الهزيل وولايته الكارثية هو شعور دفين، حرّكه وحرّك ولايته ومشروعه. هو شعور كراهية عميق لهذا المجتمع، جعل الرئيس في قصره يرى مجتمعه كساحة معركة وسكّانه كأعداء محتملين يجب «إصلاحهم»، حتى بالقوة، أو خاصة بالقوة. هي كراهية من اعتبر أنّ المجتمع نبذه، فقرّر الانتقام منه، أو كراهية الابن الضال الذي عاد يومًا أبًا بالقوّة، فدمّر المنزل. 
كان يمكن ربّما تجاهل هذا البُعد من مسيرة هذا الرجل وتركه للتحاليل النفسية لهذه الظاهرة. لكنّ هذا الكره هو كل ما سيتبقى من عهده، خاصة في لحظة انهيار كالتي نعيشها، هو الشعور الذي سيحرك بقايا تياره وصهره وحاشيته. كراهية لم تعد تضبطها طموحات رئاسية، كما جرى في الماضي، لتصبح مجرّد مدخل لعنف مفتوح.

لم يترك هذا الرئيس خلفه دمارًا وانهيارًا فحسب، بل زرع معهما الكراهية كأسلوب في السياسة. فإذا كان هناك إرث وحيد لميشال عون، بعد أكثر من أربعة عقود على دخوله السياسة في لبنان، هو هذا الشعور.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
هكذا أصبح نتنياهو وغالانت مطلوبَيْن للعدالة
12 غارة على الضاحية الجنوبية لبيروت
5 تُهم ضدّ نتنياهو وغالانت 
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد