نلتقي أمام القضاء، قال المستشار شربل قرداحي للناشط شربل الخوري. لكن، حين تجاوبت القاضية غاده عون لطلب المستشار وقرّرت توقيف الخوري خلافاً للقانون، تراجع قرداحي وأسقط الدعوى.
يبدو أنّ القاضية الموالية للعهد ذهبت أبعد ممّا طلبه المستشار الاقتصادي لجبران باسيل. لم يشأ المستشار أن يسجن الناشط، أراد تأديبه وحسب. أراد المستشار أن يهذّب لغة الناشط، وهو ما رفضه الخوري حين رفض التوقيع على تعهّد بحذف تغريدته، أي رفض الاعتذار عن الشتيمة. قال للمستشار: بدك كون لائق أنا وعم شوفك عم تقترح ضرائب على بيّي المتقاعد الفقير؟
توحي الجولة على حساب قرداحي على تويتر بأنّه موافق على ما يطالب به كثيرون من أبناء الثورة: لا مفرّ من إعادة الهيكلة، عبر إلغاء جزء من الدين، وخفض الفائدة على ما تبقى، وتطويل للآجال. لكنّ الخلاف الذي أدّى إلى الادّعاء على الناشط شربل الخوري، هو دعوة قرداحي الحكومة إلى وضع خطّة إنقاذ مالي لا تراعي فيها أحداً، يتشارك أعباءها موظّفو القطاع العام والمتقاعدون والمحتكرون وكبار المودعين على حدّ سواء. أي، باختصار، إزالة أيّ بُعد طبقيّ للصراع الدائر اليوم.
غير أنّ الجولة التويتريّة تكشف أمراً آخر عن المستشار، وهو ولعه بالشِّعر. لكنّ هذا الولع هو بنوعٍ محدّد من الشِّعر، ذاك الذي ينظم أبياتاً باتت بمثابة حِكَم أو أقوال مأثورة، يستعين بها المستشار لطرح رؤيته الاقتصاديّة. فيستشهد تارةً بالمتنبّي: أنا الغريق وما خوفي من البلل، ليعلّق على التقارير الماليّة. وتارةً أخرى، يحارب النظرة التشاؤميّة بـإيليا أبو ماضي: كم تشتكي وتقول إنك معدم/ والأرض ملكك والسما والأنجم. وعلى طريقة أبو ماضي، يخلص قرداحي بالدعوة للتبسّم: هشت لك الدنيا فما لك واجماً؟/ وتبسّمت فعَلامَ لا تتبسّمُ؟
إذا دقّقنا بالوصفة الاقتصادية للدكتور قرداحي، لا نجد فيها ما يدعو للتبسُّم، فهو يدعو الجميع لدفع الثمن. من أين إذاً جاءت تلك الدعوة للتبسُّم؟
يبطل العجب حين نعرف أنّ العونيّين اكتشفوا أنّ لبنان يملك المال اللازم لا لدفع مستحقّاته الحالية، لكن أيضاً لتسديد كلّ أصول الدَّيْن العام وفوائده. فلبنان، كأيّ تاجر مديون يملك مالاً في السوق، ما عليه إلا التحرّك لتحصيل تلك الأموال. حتّى الآن، قدّمت لنا الرؤية الاقتصاديّة العونيّة أربعة مصادر على الأقلّ لتحصيل أموالنا.
ففي مقابلةٍ لرئيس الجمهورية، ميشال عون، مع مجلّة Valeurs Actuelles الفرنسيّة، اكتشفنا أنّ لبنان لا يحتاج مساعدات من المجتمع الدولي، بل عليه تحصيل ما لديه مِن حقّ في ذمّة الدول التي أشعلت الحرب في سوريا، أي ما يقارب الـ25 مليار دولار التي تكبّدها لبنان من خسائر جرّاء تلك الحرب والنزوح الذي أنتجته.
لكن، إذا كانت هذه المليارات الـ25 كافية لإخراج لبنان من أزمته الحالية، فهي ليست كافية لتسديد كلّ الدَّين. هنا كان لا بدّ للمستشار الاقتصادي أن يستريح قليلاً مفسحاً المجال لتدخُّل الشاشة البرتقاليّة.
استضافت شاشة العهد أستاذاً جامعياً يدعى الدكتور دال حتّي. وانتشر فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي يظهر فيه حتّي وهو يطالب بأموال وضعها الأمير فخر الدين المعنيّ الثاني في أحد المصارف الإيطالية سنة ١٦١٦. يسأل حتي: لمَ لا تطالب الدولة اللبنانية بها، خصوصاً أنّ المبلغ مع فوائده بات يساوي قرابة 5 مليار دولار؟
لكن، إضافةً لمقطع الفيديو الذي لاقى انتشاراً واسعاً، فإنّ حتّي وجد في مقابلته الكاملة مصدرَيْن آخرين للمال: للبنان، على ما يبدو، 65 مليار دولار بذمّة الدول العربية نتيجة قرارات غير منفَّذة من القمم العربية. أمّا المصدر الأخير للمال اللبناني في الخارج، فهو ما نهبه الانتداب الفرنسي من ذَهَبِ قلعة جبيل.
إذاً، المال موجود في المخيّلة البرتقاليّة. كلّ ما علينا هو السعي لاسترجاعه. لكن، يبدو أنّ عثرةً تقف في وجه هذا المسعى. عثرة اسمها شربل الخوري. ذنبه أنّه تجرّأ على الشكوى والشتم. كيف تشكو يا شربل، ألم تقرأ في صغرك إيليا أبو ماضي: ولك الحقول وزهرها ونخيلها/ ونسيمها والبلبل المترنِّمُ/ والماء حولك فضّةٌ رقراقةٌ/ والشمس فوقك عَسْجَد يتضرّمُ.