الدراما السوريّة: من محاكاة المجتمع إلى التركيز على الفرد
مثل أبناء جيلي، نضجت مع تطوّر الدراما السورية. خلق هذا النضج مع الوقت ذاكرة جماعية حميمية، لا يمكن تجاوزها، وإن لم تكن مثالية دائمًا. عناوين هذه الذاكرة كثيرة، من مسلسل «الانتظار» و«غزلان في غابة الذئاب»، مثلًا، إلى «أحلام كبيرة» و«مشاريع صغيرة». عبر السنوات، تبدّلت صناعة الدراما الاجتماعية في سوريا، وعانت من الرقابة، وحاولت تقديم أعمال اجتماعية في دولة شمولية. ومنذ تأسيس «لجنة صناعة السينما والتلفزيون» في سوريا في بداية التسعينات وحتى بداية الثورة السورية، عاشت الدراما السورية زمناً ذهبياً اعتمد بشكل أساسي على تناول هموم الشارع السوري من دون أي استعراض سياسي فجّ في الحوارات والسياق الدرامي العام، وتوفّر كوادر متميزة بالإخراج والكتابة والتمثيل، تتمتّع بخبرة طويلة، والأهم وجود موارد شركات الإنتاج والتسويق والدعاية، التي ساعدت بشكل أساسي على انتشار الأعمال السورية في سائر الدول العربية.
تأثرت الدراما السورية بعد ذلك بالأحداث السياسية والتغيّرات الاجتماعية. واتضح هذا التأثير في عام 2014 حين ظهرت بشكل واضح الانقسامات السياسية بين العاملين في القطاع الفني بشكل عام. وتعمّقت هذه الخلافات بعدما أعلنت بعض الدول، وأبرزها دول الخليج التي كانت تُعدّ سوقاً ضخماً للمسلسلات السورية، مقاطعة الدراما السورية. كما اشتدّت رقابة النظام السوري، ما أعاق إنتاج الأعمال الدرامية الاجتماعية تحديداً، خاصة في لحظة سياسية دأبت أسئلتها على تعرية النظام من سلطته وإظهار فشله خدماتياً واجتماعياً وسياسياً. وأصبحت هذه الرقابة مع الوقت من أبرز عوائق تطور الدراما السورية، وعجزها عن مواكبة أسئلة الشارع السوري، ما استدعى اجتماع «لجنة صناعة السينما والتلفزيون في الهيئة العامة» لمناقشة أزمة الرقابة، وخاصة أزمة رقابة النصوص، التي غالباً ما كانت تدفع صناع القطاع الدرامي لإنجاز نصوصهم التلفزيونية خارج سوريا.
تتكون الرقابة في سوريا من لجنة الرقابة على النصوص التي تقرأ وتراقب النص قبل بدء العمل عليه وتصويره، ولجنة أخرى منفصلة ومستقلة تماماً تسمى «المشاهدة» التي تحكم رقابتها على العمل بعد إنجازه. بدا تسلّط الرقابة واضحاً على الكثير من الأعمال الدرامية السورية التي كان يمكنها أن تظهر بصورة أفضل رغم سنوات الحرب، وأهمها مسلسل «فوضى» الاجتماعي من تأليف حسن سامي يوسف ونجيب قصير، للمخرج سمير حسين. ورغم وجود نظام الرقابة هذا، استضاف مجلس الشعب في عام 2022 وزير الإعلام بطرس حلاق لاستجوابه حول بعض الأعمال الدرامية التي تم عرضها في العام الماضي، كونها أعمالاً تشوه صورة «سوريا».
بالعودة إلى العام 2014، يمكن اعتبار مسلسل «قلم حمرة»، من كتابة يم مشهدي وإخراج حاتم علي، آخر عمل اجتماعي وصف حياة الطبقة الوسطى السورية في بداية الحرب. العمل من إنتاج إيبلا الدولية للإنتاج السينمائي والتلفزيوني، ويعتبر مسلسل «قلم حمرة» من آخر إنتاجاتها الناجحة.وفي العام ذاته، بدأت الشركة اللبنانية، «الصباح إخوان»، بإنتاج أعمال مشتركة سورية لبنانية، مع أول عمل مشترك بعنوان «لو»، لتنطلق بعدها سلسلة الأعمال المشتركة، مثل «الهيبة» بأجزائه الخمسة، و«خمسة ونص»، و«طريق»، و«ما فيي»، و«2020». وأنتجت الشركة في عام 2023 مسلسلين، «وأخيراً» و«النار بالنار».
قدّمت شركة الصباح مثالاً للدراما التي لطالما كانت تحلم بها السلطة، دراما تعيد إنتاج نفسها ضمن مضمون ضيّق، خالية من أسئلة الحياة العادية واشتباكها اليومي مع الحب والجوع والمخدرات والمهربين واللصوص والسلطة. تعرض هذا الاشتباك ضمن نجومية البطل الواحد، أو مجموعة النجوم الذين يعتبرون أداة التسويق. وهذا ما يشكّل التناقض الواضح بين الدراما التي كنا نشاهدها في الماضي، والتي صنعت ألفتنا التي كانت تستمد قيمتها من الحكاية، وإنتاجات شركة الصباح التي صارت تستمدّ قيمتها من النجومية والبطولة الفردية المطلقة.
تسع سنوات اختلف خلالها تعريف الدراما الجيدة، من أعمال درامية حاولت محاكاة المجتمع وتطوره إلى أعمال اليوم التي تحرص على تغييب المجتمع عن سردها، وعلى تفتيته وتقسيمه إلى حكايات غير مترابطة، والتركيز على الفردية كمكوّن البطولة.
«النار بالنار»: تنميط الأفراد
«النار بالنار»، من إنتاج شركة الصباح، هو ثاني مسلسل درامي من إخراج محمد عبد العزيز، بعد مسلسل «ترجمان الأشواق» (2019)، ليؤكد انتقاله من السينما الممتلئة بالرموز، مثلًا في فيلمي «دمشق مع حبي» و«الرابعة بتوقيت الفردوس»، إلى المسلسلات الاجتماعية. «النار بالنار» من كتابة رامي كوسا الذي انتقل من الصحافة لكتابة أغانٍ وسيناريوهات أفلام روائية قصيرة وأعمال درامية. قبل هذا المسلسل، كان قد كتب مسلسلي «القربان» و«أولاد آدم». يضمّ «النار بالنار» مجموعة من نجوم الدراما والمسرح من سوريا ولبنان، مثل عابد فهد وكاريس بشار وجورج خباز وطوني عيسى.
تجري أحداث المسلسل في حي «السرور» البيروتي في الزمن الحاضر، في محاولة لتقديم «دراما اجتماعية واقعية» في محاكاتها لحياة السوريين واللبنانيين في بيروت. يضمّ الحيّ «مريم» (كاريس بشار)، الشخصية الرئيسية في المسلسل، وهي مدرّسة سورية هربت من الحرب إلى بيروت وأصبحت فيها لاجئة بلا أوراق ثبوتية. يعيش في الحي أيضًا الإسلامي (طوني عيسى) واليساري المحبط (طارق تميم) والعنصري اللبناني الذي اختُطِف والده في الثمانينات (جورج خباز) والمرابي الجشع (عابد فهد). توحي هذه العناوين التي تمثلها الشخصيات كمية مدهشة من التفاصيل الاجتماعية، تنحاز في رؤيتها للتفكيك الفعلي الذي نعيشه اليوم، والتداخل المركب في زمن الانهيار الاقتصادي.
بعد الحلقات الخمس الأولى من المسلسل، وخاصة في المشهد الذي انتشر حول نقاش دار بين اللاجئة السورية والعنصري اللبناني على خلفية لافتة تمنع تجوّل السوريين، بدأ العمل يتحوّل إلى نتف مشاهد تعرض سياقات متناقضة لحياة تبدو خيالية. فحتى في اشتباك الشخصيات ببعضها بعضاً، نرى حوارات عشوائية تنمّط الواقع بسطحية، من دون حكاية واضحة أو نضج للأسئلة التي تحاول أن تطرحها الشخصيات أو تبحث عنها. أحداث المسلسل ركيكة جداً ولم تتطور في العمل. اتضح في المسلسل العجز المركّب في رؤية شركة الصباح لإنتاجاتها الاجتماعية. وهو نابع من اعتمادها على نجوم يسوّقون للعمل، من دون فهم السياق والمضمون الذي يعرضه العمل، خاصة في علاقة الأفراد مع السلطة ومع أنفسهم ومع المجتمع. فيتحوّل المسلسل إلى سلسلة مشاهد غير مترابطة، لا يحوي قصة، ويخلو من متعة المشاهدة.
غالباً ما أدّى سردُ الوجود من خلال الرمز إلى تنميط شركة الصباح فئات كثيرة من المجتمع. هذا ما دفع ممثليها في الكثير من الأعمال إلى الخروج بتصريحات صحفية لتبرير أدوارهم، كونها لا تنتمي للمجتمع الذي يحاولون تصويره، خاصة في مسلسل «الهيبة». أمّا الرمزية في مسلسل «النار بالنار»، فتلخّص الصورة الكاملة لسياسات الإنتاج التي تحاول اتباعها شركة الصباح، من خلال عرض المجتمع كنتف قصص غير مترابطة، لا تملك شخصياته حرية التعبير عن نفسها. وهذا ما حاولت الرقابة الرسمية فرضه كمقاربة، أي تقديم أمثلة للمجتمع من خلال رموز، تبقى سطحية في أسئلتها. وهنا قد يكمن جوهر الاختلاف بين الدراما التي كبرنا عليها في سوريا، والدراما البديلة المشتركة التي تحاول اعتمادها شركة الصباح، كسائر الشركات التي تبغي الربح.
ليس على الدراما أن تشتم السلطة لكي تكون ناجحة، بل أن تشتبك مع أسئلة الواقع، من دون تأويل الحاضر كنتيجة لخيارات شخصية. الرمزية تشجّع تأويلاً كهذا، وتحوّل الواقع إلى علامات أو دلالات، غالبًا ما تحملها شخصيات محدّدة لدواعٍ إخراجية. فتكرّس تلك المسلسلات بالشكل شعوراً هشاً من الفردانية، يمحو الواقع وتعقيداته. لكنّ الشكل ليس منفصلًآ عن المضمون والسياسة. فالتركيز على الفردانية يخدم مناخ ما بعد الثورة، في خيبته من «الجماعي» وتطبيعه مع سلطات الواقع. تبدّلت الأسئلة بين دراما الماضي والحاضر، أي بين صناعة قائمة على الحكاية الجيدة القادرة على خلق ذاكرة تستطيع استعادة الواقع، وصناعة تستمدّ قوتها من الاستهلاك السريع القائم على التشويق المفتعل، على حساب الحاضر.
قد يبدو التعميم قاسياً أحياناً، لكنّ مسلسل «النار بالنار» يقدّم لنا مثالاً على محدودية الدراما في رؤيتها للواقع. بهذا المعنى، يمكن اعتبار المسلسل نتيجة لتراكم هذا النوع من الدراما في السنوات الأخيرة. كانت الدراما بالماضي، مهما اهتمت بنسبة المشاهدة، تحرص أيضاً على ربط الواقع بالحلم ونسج الأسئلة المتراكمة التي تصوغها حياتنا. لم يكن هدف الدراما يوماً إيجاد الإجابات الجاهزة، ولم ينتظر أحد منها هذا الدور. لكن اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، على الدراما أن تركز قدرتها على التقاط الحياة من داخلها وتقديمها بشكل جديد وخاص، من دون صور وهمية لعوالم متخيلة، لا يمكننا العودة إليها.