منذ أكثر من مئة يوم، وأنظار العالم متّجهة إلى ما يحدث جنوبًا، إلى حدث الإبادة الذي يشكّل انعطافًا تاريخيًا، لم تتّضح معالمه بعد. أنظار العالم، أو بكلام أدقّ، أنظار أكثرية العالم. فالبعض في لبنان رأى في ما يجري «فرصة» لاستكمال ألاعيبه داخليًا والاستمرار بتدعيم الانقلاب على أي إصلاحات، أكانت قضائية أو اقتصادية.
فبعد أكثر من مئة يوم، نعود لنلتفت إلى الداخل اللبناني، ونعاين مدى استمرار السلطة في مشروعها ضرب أي عدالة ممكنة، في شتّى الملفات، وكأنّ معالم هذا المستقبل الغامض باتت تتّضح: الاستمرار في ما عليه الأمور.
تحقيق المرفأ
ما زال تحقيق انفجار المرفأ يقلق السلطة، وهي مستمرّة في عرقلته ومحاولة إحباطه.
بعد تكليف القاضي حبيب رزق الله، في 5 حزيران 2023، النظر في ادعاء القاضي غسان عويدات على المحقق العدلي القاضي طارق بيطار بجرم اغتصاب السلطة، نفّذ رزق الله أوّل إجراءاته بالطلب من عويدات تصحيح الادعاء، وذلك في كتاب صادر عنه في 12 كانون الثاني 2024. ردّ عويدات بعرقلة عمل رزق الله بالكامل. فاستأنف في اليوم نفسه طلب رزق الله أمام الهيئة الاتّهامية التي لم يشكّلها مجلس القضاء الأعلى. لجأ عويدات إلى التعطيل مجدداً، وفق المسارات القانونية، لا لشيء سوى لأنه يريد إبقاء التعطيل قائماً والملف نائماً.
في موازاة ذلك، تحرّكت أداة قضائية أخرى تابعة للسلطة في 17 كانون الثاني 2024، وأوقفت تنفيذ مذكرة التوقيف الصادرة بحق الوزير السابق المدعى عليه يوسف فنيانوس. بهذا الإجراء، انضمّ القاضي صبّوح سليمان إلى شبكة التعطيل. قوبلت خطوته بطلب ردّ من قبل مكتب الادعاء في نقابة المحامين. لكنّ دلالة هذه الخطوة واضحة في الإمعان في عرقلة التحقيق.
بين إبقاء عمل المحقق العدلي معلّقاً، وإسقاط الملاحقة عن المدعى عليهم السياسيّين، يبدو أنّ همّ السلطة السياسية لا يزال عرقلة التحقيق الذي ما زال يقلق السلطة، خاصة مع خروج القاضي غسان عويدات المنتظر إلى التقاعد في 21 شباط 2024.
تحقيق طرابلس
بعد قرابة عامَيْن على جريمة إغراق مركب المهاجرين على شواطئ طرابلس، والتي ذهب ضحيّتها 40 شخصاً، أقفل القضاء اللبناني التحقيق نهائياً في هذا الملف، رغم اعتراض أهالي الضحايا.
تبلّغ أهالي الضحايا والناجون يوم الثلثاء، عبر وكلائهم القانونيين، عدم ملاحقة أيّ من الضباط وعناصر البحرية اللبنانية الـ12 المتّهمين بإغراق المركب. ردّ مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية الملفّ بحجّة «عدم الاختصاص»، ومن ثمّ أحالت النيابة العامة التمييزية الملف إلى النيابة العامة الاستئنافية في الشمال، التي ادّعت على اثنين من الناجين وحفظت الملف.
أتى القرار القضائي بعد مسار طويل من التعامل الاستخباراتي مع الناجين وذوي المفقودين. فكانت مخابرات الجيش قد استدعت واحتجزت عدداً من الناجين وأهاليهم على خلفيّة تصاريح ومنشورات إعلاميّة تتّهم عناصر الجيش بمحاولة قتلهم. كما عملت السلطة والأجهزة الأمنية على طمس التحقيق، من خلال عرقلة عمل الغواصة التي استقُدمت لإنتشال الجثث، والتي لم تستطع إنجاز مهمّتها وسط شُبهات جديّة عن تدخلات سياسية وضغوط تعرّض لها طاقم الغواصة.
تحقيقان في حالة موت سريري
نجح حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة في سحب ملفّه من التداول الإعلامي والسياسي ليتمّ تطبيع موقعه كمطلوب دولي حرّ في لبنان. ظهر سلامة في مراسم دفن شقيقه محاطاً بعناصر حماية من الأمن الداخلي، رغم مذكّرات التوقيف والإحضار الصادرة بحقّه في لبنان وأوروبا. جاء هذا الظهور بعد الطمس التدريجي لملفه في القضاء اللبناني، ليتحوّل سلامة، ككارلوس غصن من قبله، إلى مطلوب دولي آخر متخفٍّ محلياً، مع فارق مهم، وهو أن سلامة متّهم باختلاس أموال عامّة لبنانيّة، وأن هناك مذكرات إحضار محليّة لم تُنفّذ بحقه.
كما في قضية المرفأ وسائر القضايا الأخرى التي يبحث فيها الضحايا عن العدالة، لا تزال قضية انفجار التليل الذي أدّى إلى مقتل 36 شخصاً وسقوط عشرات الجرحى، معلّقة. على الرغم من إصدار القرار الاتهامي في القضية في 25 تموز 2022، لم تتمّ إلى اليوم محاكمة المدعى عليهم الثمانية في الملف، وذلك بعد مرور عامَين وخمسة أشهر من وقوع الانفجار. شهد الملف حركة إبطاء سير الجلسات حيناً وإرجائها حيناً آخر، ما سمح بتراجع أكثر من عشرين من المدّعين وإسقاط حقّهم مقابل تعويضات مالية من قبل المدعى عليهم. وفي نهاية العام الماضي، قرّر المجلس العدلي إخلاء سبيل متّهمَين أساسيَّين، هما جورج إبراهيم وعلي الفرج، وهما مسؤولان عن تخزين المحروقات التي أدّت إلى المجزرة.
الهيئات الاقتصاديّة ونصاب جلسة مناقشة الموازنة
إلى جانب التعطيل في الملفات القضائية، باشرت السلطة دراسة موازنة 2024، والتي باتت تميل لمصلحة التجّار والهيئات الاقتصاديّة.
من المفارقات التي تستحق الوقوف عندها، هو أنّ جميع الكتل التي تحفّظت على مبدأ التشريع في ظلّ الفراغ الرئاسي، حضرت جلسة مناقشة موازنة العام 2024 وأمّنت نصابها. وهذا يشمل نوّاب المعارضة والتغييريّين والتيّار الوطني الحر في الآن نفسه. واللافت للنظر هو أنّ حضور هؤلاء الجلسة لم يمنعهم من ترداد التحفّظ على فكرة عقد الجلسة نفسها، التي أمّنوا نصابها.
لفهم ما يجري، يمكن العودة إلى بيان الهيئات الاقتصاديّة التي هالها الكثير من بنود مشروع قانون الموازنة المُحال من قبل الحكومة، مقابل تأييدها التعديلات التي أقرّتها لجنة المال والموازنة. من هنا، كان تشديد الهيئات الاقتصاديّة التي تمثّل مصالح كبار التجّار والمستوردين، على أهميّة حضور النوّاب للجلسة التشريعيّة، للتصويت لمصلحة النسخة المعدّلة من قبل لجنة المال والموازنة، أو إسقاط الموازنة برمّتها والعودة إلى قاعدة الإثني عشريّة. فعدم تأمين نصاب الجلسة، أي عدم التصويت على الموازنة، كان سيسمح بإقرار الصيغة المُعدّة من الحكومة بمرسوم.
أهم ما تضمّنته الصيغة الحكوميّة الأساسيّة التي تحفّظت عليها الهيئات الاقتصاديّة، كان فرض آليّات لتحصيل الضريبة على الاستثمارات الموجودة في الخارج، والتي تخص المتمولين المقيمين في لبنان. كما كانت ستفرض هذه الصيغة غرامات كبيرة على المتهرّبين من هذه الضريبة. كما شملت بنوداً تفرض ضريبة على أرباح منصّة صيرفة، التي حققها التجّار، والتي تتجاوز قيمتها 2.5 مليار دولار. ألغت تعديلات لجنة المال والموازنة هذه البنود، وأقرّت في المقابل بنوداً لمصلحة التجّار والفئات المتموّلة، مثل: الإعفاءات الضريبيّة على أرباح المضاربات العقاريّة، وتخفيض سعر الصرف المعتمد لاحتساب تعويضات نهاية خدمة العمّال، بالإضافة إلى بنود تسهّل تأجير أملاك الدولة بأسعار بخسة لأكثر من 18 سنة.
لم تضيّع السلطة الوقت لترميم أسسها، في ظل حدث طغى على العالم. فمعركتها ضد العدالة مستمرة، بغياب أي اعتراض داخلي.