من المبكر القول إنّ دونالد ترامب سيتابع مسار سياسته الخارجيّة، من حيث أنهاها في ولايته السابقة، وخصوصاً في ما يتصل بملفّات الشرق الأوسط. فنحن أمام رجلٍ يفخر مناصروه ببراغماتيّته المفرطة، المستندة إلى طبعٍ حادّ ومتقلّب، لا يسمح لحليفٍ أو خصم بالارتياح أو التوقّع. أضف إلى ذلك أنّ معالم النزاعات نفسها قد تغيّرت في المنطقة منذ ذلك الوقت. كذلك من السذاجة الاعتقاد بأنّ أدوات السياسة الخارجيّة الأميركيّة في المنطقة، وربما بعض أهدافها، لن تتغيّر الآن بعد انتقال السلطة من إدارة بايدن إلى ترامب، وإن احتفظت هذه السياسة بأبرز معالمها الأساسيّة، مثل العلاقة المميّزة والإستراتيجيّة مع إسرائيل، والانحياز الحاسم لصالحها في أي صراع على مستوى الإقليم.
هكذا تتعدّد المتغيّرات المؤثّرة في المشهد. ومع ذلك، عكست أولى الخطوات التي قام بها ترامب هذا الأسبوع المعالم الأساسيّة لإدارته التي سيدير من خلالها سياسته الخارجيّة. التعيينات التي قام بها في المناصب التي ترتبط بملفّات الشرق الأوسط، رسمت صورة تمزج ما بين التماهي مع مشروع أقصى اليمين الإسرائيلي، والمقاربة الحادّة والصارمة في المواجهة مع إيران وحلفائها في المنطقة. وفي التعيينات ذات التأثير الاقتصادي، ثمّة ما يفرض المزيد من المراعاة للحلفاء الخليجيين المُنتجين للنفط، والقادرين أيضاً على إنتاج مشاريع التطبيع المُستندة إلى طموحات استثماريّة وماليّة. من هذه القاعدة السياسيّة في إدارته سينطلق ترامب بمجرّد انتقال السلطة رسمياً.
رؤوس الصهيونيّة الحامية
في التعيينات التي قام بها ترامب، يبرز إسم السيناتور عن ولاية فلوريدا ماركو روبيو في وزيراً للخارجية. قبل هذا التعيين، اشتهر روبيو في مطلع العام بالفيديو الذي واجه فيه نشطاء السلام في مبنى الكونغرس، متبنّيًا عبارة «الحيوانات المتوحّشة» لوصف المقاومين الفلسطينيين، والتي روّجها نتنياهو بنفسه في بداية الحرب على غزّة لتبرير الإبادة. روبيو ضدّ وقف إطلاق النار، حتّى «تدمير آخر عنصر من حماس يمكن أن يُطال». وإذا كان هناك من ضحايا في غزّة، فالمسؤول هو حماس وحدها، التي «تختبئ خلف المدنيين»، وتبني «المنشآت العسكريّة تحت المستشفيات». من يرأس الدبوماسيّة الأميركيّة، لا يحرص حتّى على ترك مسافة فاصلة بين خطابه وخطاب حكومة نتنياهو إزاء الحرب.
أمّا سفير ترامب إلى إسرائيل، فسيكون الحاكم السابق لولاية أركنساس مايك هاكابي الذي يعتقد أنّ مطالبة إسرائيل «بضمّ الضفّة الغربيّة أقوى من مطالبة الولايات المتحدة بمانهاتن»، وأنّه «لا يوجد شيء إسمه الضفّة الغربيّة، بل هي يهودا والسامرة». سيكون هاكابي أوّل شخص غير يهودي يتولّى منصب كهذا منذ العام 2011. لكنّ خلفيّته لا تقلّ صهيونيّة عن أي مستوطن من أقصى اليمين الإسرائيلي المتطرّف. الواعظ والمبشّر في المجتمع الإنجيلي الأميركي، يفاخر بأكثر من 100 زيارة نظّمها إلى إسرائيل، دعمًا للنشاط الاستيطاني في الضفّة الغربيّة. بعض تلك الزيارات كان مخصّصاً للاحتفاء ببناء مستوطنات جديدة.
بعد تعيينه، لم يُخفِ هاكابي تمسّكه بخلفيّته الاستيطانيّة. حين سُئل عن إمكان اتخاذ الولايات المتحدة خطوات لتسهيل ضمّ الضفّة الغربيّة إلى إسرائيل، أجاب بصراحة: سأعتبر دعم هذا الهدف شرفًا عظيمًا بالنسبة لي. في قاموس قضم «يهودا والسامرة»، لا مكان لحلّ الدولتين، ولا للتفاوض على دولة فلسطينيّة. وأكثر ما يمكن أن تطمح له السلطة الفلسطينيّة في المستقبل، بحسب هذا المخطّط، هو إدارة مدنيّة لأشلاء المدن والمخيّمات التي ستتبقّى للفلسطينيين، في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي.
توجُّه السفير الإسرائيلي الجديد لدى الولايات المتحدة سيُماثل اتّجاه نظيره الأميركي في إسرائيل. يحيئيل لايتر، خرّيج المدرسة الدينيّة في مستوطنة «كريات أربع»، كان من أوائل المستوطنين الذين ساهموا في إقامة حي «أراضي يشاي» الاستيطاني في الخليل، عام 1984. تدرّج في التعليم التوراتي في القدس، قبل أن يؤسّس «صندوق الخليل» لتمويل الأنشطة الاستيطانيّة، ليترأّس بعدها مجلس المستوطنين في الخليل بين عامَيْ 1989 و1992. هكذا ستكون العلاقة الدبلوماسيّة بين تل أبيب وواشنطن محكومةً بسفيرَيْن يحملان العقيدة الاستيطانيّة وأحلام القضم والتوسّع.
سلام الغلبة والقهر… والمشاريع الاقتصاديّة
هناك أيضاً ستيفين ويتكوف، مبعوث ترامب الجديد إلى الشرق الأوسط، الذي أتى إلى منصبه من عالم العقارات والاستثمارات، من دون أن يملك في سجلّه ما يؤهّله لمركز دبلوماسي كهذا. يقوم رصيده السياسي على لعبه دور صلة الوصل ما بين حملة ترامب الرئاسيّة ومجتمع رجال الأعمال اليهود الأميركيين. وكُبرى حملات التبرّع التي جمعها من أجل ترامب، كانت ذات بُعد انتقامي، وبالتحديد بعدما عطّلت إدارة بايدن إحدى شحنات السلاح المتّجهة إلى إسرائيل.
في خلفيّة ويتكوف، ثمّة ما ينسجم مع الرؤية التي تبنّاها نتنياهو للسلام في المنطقة: التطبيع القائم على مشاريع اقتصاديّة واستثماريّة كبرى، بمعزل عن الحقوق السياسيّة التي يُفترَض أن تؤسّس لحل دائم للفلسطينيين. فترامب يتحدّث اليوم عن إنهاء الحروب، وأولوليّة خروج بلاده من النزاعات العسكريّة المُكلفة، لكنّ طبيعة الأسماء التي اختارها في إدارته، توحي بأنّ الرجل سيعود إلى نموذج «صفقة القرن»، أي السلام المستند إلى الغلبة والقهر للفلسطينيين، في مقابل شراء تنازل الدول العربيّة وزعمائها بالمشاريع الكبرى، وربما المعاهدات الأمنيّة مع الولايات المتحدة، لدخول مسار التطبيع.
موقع الخليج في مشاريع المنطقة
على مستوى المناصب ذات الطابع الاقتصادي في إدارة ترامب، ثمّة ما يدفع بالاتجاه نفسه أيضًا. عضو الكونغرس السابق لي زيلدين سيكون المكلّف بالإشراف على السياسات البيئيّة للولايات المتحدة الأميركيّة. ومهمّة الرجل الأولى، بحسب ترامب نفسه، هي إلغاء الإجراءات التنظيميّة السابقة التي اتخذتها إدارة بايدن لحماية البيئة. زيلدين نفسه غير مؤمن بقضيّة المناخ، وهو غير متخصّص في هذا المجال أصلًا، واشتهر بمناهضة مشاريع القوانين المتعلّقة بهذه القضيّة في الكونغرس.
أن تبتعد إدارة ترامب عن السياسات البيئية وأولويّات الطاقة المتجدّدة، وأن تركّز على هيمنة الولايات المتحدة في مجال الطاقة، يعني أن تكون أكثر حرصًا على العلاقة مع حلفائها الخليجيين المنتجين للنفط. وترامب المأخوذ بفكرة تحقيق الفوائض التجاريّة مع الدول الأخرى، حريص أساسًا على العلاقة مع كبار مشتري السلاح الأميركي في الإمارات العربيّة المتحدة والمملكة العربيّة السعوديّة. أضف إلى ذلك أنّ اختيار صقر متشدّد في العلاقة مع طهران، مثل بيت هيغست لوزارة الدفاع، سيفرض على الولايات المتحدة توثيق العلاقة الأمنيّة والدفاعيّة مع الضفّة الأخرى من الخليج العربي.
سيرتبط أبرز الملفّات التي تنتظر إدارة ترامب بالمعاهدة الدفاعيّة مع المملكة العربيّة السعوديّة، والتي يفترض أن تُصاغ وفق نموذج الاتفاقيّات التي تربط الولايات المتحدة بحلفائها في شرق آسيا. إدارة بايدن مارست الابتزاز بشكلٍ متكرّر في هذا المجال، عبر ربط المعاهدة بمسار تطبيع السعودية مع إسرائيل، الذي تفرمل بانتظار انجلاء نتائج الحرب على قطاع غزّة. بهذا الشكل، سترتبط صفقات الاقتصاد والدفاع بمشاريع السلام القسري، وطموحات دفن المسألة الفلسطينيّة.
...لكن «أميركا أوّلًا»
كلّ ما سبق، وإن قدّم صورة موغلة في التشاؤم إزاء توجّهات الإدارة الأميركيّة الجديدة، لا يفترض أن يدفع المراقب إلى افتراض خيارات محدّدة بشكل بديهي لهذه الإدارة، في المرحلة المقبلة. في النهاية، نحن أمام قيادة شديدة البراغماتيّة، مبنيّة على نهج «انعزالي» في مقاربة النزاعات الدوليّة، ووفق معيار المصالح الوطنيّة والمحليّة بأضيق مفاهيمها.
على سبيل المثال، ترتبط مسألة التشنّج والمواجهة مع إيران بحسابات خطوط إمداد النفط في الخليج العربي، والتي ترتبط بدورها بأسعار النفط العالميّة ومعدّلات التضخّم في الغرب. في هذه المسائل، ثمّة اعتبارات تمسّ بتنافسيّة الصناعات الأميركيّة، وبمعيشة المواطن الأميركي، التي يفترض أن تفوق أهميّتُها- بالنسبة لترامب- الاعتبارات المتعلّقة بإسرائيل وأمنها. هذه الحسابات بالذات كانت موضع توجّس الأوساط الإسرائيليّة قبل انتخاب ترامب «الانعزالي». حماسة فريق ترامب وسقفه المرتفع في وجه إيران قد يصبّان في خانة التفاوض من موقع أكثر صرامة، لكنّه قد يخلص إلى تسويات لن تُعجب نتنياهو بالضرورة.