لا يملك حزب الله وحلفاؤه الممانعون حصرية الخطاب التخويني لمن يخالفهم الرأي أو يعارضهم معارضةً جذريةً وحادّة. فبين معارضيهم الكثر ثمّة مخوّنون يقلّدونهم، ولا يميّزهم عنهم- بمعزل عن المظاهر والمصطلحات واختلاف المواقف- سوى العجز عن مجاراتهم تملّكاً للسلاح وقدرةً (مشتهاة) على استخدامه.
ولا يملك الحزب الشيعي وحلفاؤه أيضاً حصرية المقاربات التسطيحية للأمور الشائكة والمعقّدة. فبين خصومهم ثمة تسطيح مضاعف أحياناً، ليس بسبب صدوره عن خلفيّات طائفية أو مذهبية (وميليشيوية سابقة) مضادّة فحسب، بل بسبب صدوره أيضاً عن أفراد ومجموعات يراهنون على موازين قوى خارجية، صارت حربية مدمِّرة، لتصفية حسابات داخلية عجزوا عن التعامل معها.
يمكن القول إن التخوين المُستقوي بالسلاح من جهة، والرهان على الحرب الإسرائيلية من جهة ثانية، باتا شرطين متحقّقين من شروط صدام أهلي مقبل، خاصة أن تاريخ لبنان الحديث، مليء بالتجارب التي شهدت عنفاً فائضاً بعد مراحل فيها الكثير من المشتركات الداخلية والإقليمية (وليس الدولية) مع المرحلة الراهنة.
فبعد حرب السنتين والاجتياح السوري ورهان اليمين المسيحي عليه، شهد البلد جولات عنف خطيرة في حرب انتقلت من إطارها اللبناني الى إطار الصراع في الإقليم، ثم تبدّلت تحالفاتها على نحو دراماتيكي. وبعد اجتياح إسرائيل للبنان العام 1982 وحصار بيروت وخروج منظمة التحرير الفلسطينية من البلد، جرى اغتيال الرئيس المنتخب في ظل دبابات الاحتلال، ودخل البلد في مجموعة حروب جديدة، استهلّتها حرب الجبل وأكملت توسّعها حربا الضاحية ثم بيروت العام 1984 ثم شرق صيدا العام 1985. وحتى لو قيل إن كل هذا حصل في خضمّ حروب تناسلت واحدتها من الأخرى بين العامَيْن 1975 و1990، فإن الأمر تكرّر ولَو على نحو محدود ومختلف في بعض أوجهه العام 2006، بعد حرب تمّوز بين حزب الله وإسرائيل، إثر اندفاعة الحزب للسيطرة بالعنف على داخل تمنّع عنه انتخابياً، ومراهنة بعض قوى هذا الداخل، في المقابل، على الحرب للخلاص من سطوة الحزب ومن عرقلته لمسار سياسي أرادته تلك القوى طيّاً لصفحة سابقة على اغتيال الحريري. هكذا دخل البلد بين العامين 2006 و2008 في أزمة كبرى انتهت بأحداث 7 أيار المشؤومة ثم بشراكة سياسية وصراعات من داخل مؤسسات الحكم أفضت مع الوقت إلى انهيار المؤسسات المذكورة ومعها اقتصاد البلد، رغم انتفاضة شعبية حاولت في العام 2019 إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
ولعلّنا اليوم أمام احتمالات تكرار سيناريو الصدامات التالية لحربٍ، ليس من الواضح بعد متى توقّفها، إذ أن وقف النيران فيها، وبمعزل عن كل السجالات والمطالب (وبمعزل أيضاً عن غباء بعضها)، وَقفٌ على بنيامين نتنياهو، أو على ضغوط أميركية جدّية عليه، لا يبدو أنها ستأتي في المدى المنظور.
والاحتمالات هذه مبنيّة- كما أسلفنا- على التخوين وعدّته العنفية، وعلى التحريض والشماتة كجريمتين سياسيّتين في بلد منهوش ومتهتّكة روابطه الاجتماعية. لكنها مبنيّة أيضاً على مظلوميّات قد تتطوّر قولاً ومسلكاً: مظلومية «بيئة حزب الله» المهجَّرة والمقصوفة والمتعذِّرة إعادة بناء عمرانها بسبب حجم التدمير والتنكيل الذي تعرّضت له مناطقها ونقص الإمكانات. ومظلوميات بيئات حاضنة لقوى طائفية أخرى، تحضن أيضاً مهجّرين من مريدي الحزب اليوم، وتعدّ أنها تدفع أثماناً باهظة لمغامراته وتغليبه حلفَه الإيراني على مصالح اللبنانيين.
والمظلوميات هذه جميعها، مع ما قد تولّده من انتقامات وتبرير عنف لا ينقص مخزونه في الخطاب السائد، لا يوجد بعدُ ما قد يفرمل اندفاعتها أو يلجم تحويل فظاظة ألفاظها الى فظاظة أفعال معمّمة.
مردّ ذلك أسبابٌ عديدة، خارجية غير مكترِثة أو غير مؤثّرة، وداخلية ترتبط بغياب السلطة الشرعية المركزية القادرة على تمثيل إجماع ما أو لعب أدوار سياسية وأخذ مبادرات وطنية في لحظات كالتي نشهد. وترتبط كذلك بأوهام القوى الطائفية جميعها وانتظاراتها من مآلات الحرب نفسها.
وهذا يعني أننا قد نكون في المقبل من الأيام أمام بداية صراعات وتوتّرات سيطول أمدها ما دامت الخشية منها لم تدفع معظم الأطراف، حتى الآن على الأقل، إلى مراجعة أدبيّاتهم وحساباتهم ورهاناتهم البائسة.