أكتب هذا النص بينما يصفّق الحيّ للممرّضات/ين والفرق الطبّية العاملة على رعاية وتطبيب المصابين/ات بفيروس الكورونا والحدّ من انتشاره. لم أكن على علم بالوقفة وخرجت راكضة ظنّاً منّي أنّنا سندقّ الطناجر. سرت رعشة لذيذة فيّ وأنا أفكّر أنّ هذا الضجيج سيذكّر أصحاب السلطة أنّ ما من قوّة قاهرة (force majeure) تنسينا أنّ الأزمات تبدأ عندهم وتنتهي بهم. شعرت بنوع من الخيانة حين خاب ظنّي، ثمّ بالخجل من شعوري بالخيانة ذاك. ألا أودّ توجيه تحيّة دعم وزقفة_للأبطال؟ ماذا جرى لي؟
كنت قد شاهدت، بالغلط، فيديو لراغب علامة عن «إرهاب الكورونا» وأبطال الكادر الطبّي، ظانّةً أنّي سأحصل على مادّة فكاهيّة من نظريّات المؤامرة التي يجود بها الرجل مؤخّراً، كأنّ بن سلمان يدفع له ليسلّينا. لكن تبيّن أنّ الفيديو جزء من حملة لمشاهير يحثّون «الشعب اللبناني الغيور والمُحبّ» (ما بعرف مين بيكتبلهم خطاباتهم هالجماعة) إلى مبادرة التصفيق هذه، تكريماً لمن يساعدوننا في القضاء على «أزمة الكورونا الوطنيّة». ولم يغب عن بعضهم الدعوة إلى التصفيق لعناصر الأمن كذلك. طلبوا منّا الوقوف على بلاكيننا والتصفيق، وذلك تيمُّناً بهم، لأنّهم سيصفقون من بيروت ومن دبي. فالحلم العربي استحال إلى خبر كان وخرج عن صيحات الموضة. وآخر صيحاتها اليوم هي «كورونا! كورونا!»، وستظلّ تصيحها، ما لم تقتلها الكورونا بدورها، إلى أن ننسى ما تبقّى علينا من عمل ثوريّ.
نعيش حاليّا في سياق تعبئة عامّة، مع حظر تجوّل، وتتسلّل المصطلحات الحربيّة إلى قواميسنا، لنعيّن الأجهزة الطبية جنود المعركة مع الكورونا، العدوّ الأوحد الذي يخيّل لنا أنّه وحّد الجميع من خلال التصفيق. سيصفّق العنصريّ، والبرجوازيّ، والمعتّر. ستصفّق النساء المتعرّضات للعنف المنزليّ مع معنّفيهنّ. سيصفّق الكتائب والحزب والحركة وبيروت مدينتي (عيب حطهم بنفس الجملة، بعرف). سيصفّق الجميع لجنود المعركة بوجهها الطبّي، متناسين أنّ التسلّل الحربيّ إلى قواميسنا غير بريء، مع وجود جنود على الحواجز. ليس الأمر مقارنة استمنائية بعيدة المنال. فقد دعت حملة «أنا خطّ أحمر»، مثلاً، إلى اعلان حالة الطوارئ وجعل الدولة البوليسية اللطيفة، كما سمّتها صديقتي، دولة عسكريّة صريحة.
يستثمر الجميع في التنظير على ربّنا في عدم نقل الوباء، ودعم الجهود الوطنيّة في القضاء عليه، باعتبار أنّ الوباء يطال الجميع وأنّه فرصة لتناسي اختلافاتنا والتركيز على «أهمّ شي الصحّة». لكنّ الوباء لا يطال الجميع، ولم تتوفّر هذه الصحّة منذ البداية، قبلَ الكورونا ومؤامرات «الدول الشريرة». فإن كانت
- مناعتنا ضعيفة وفريسة سهلة للفيروسات
- عدد الأسرّة في المستشفيات لا يكفينا
- المعدّات والتجهيزات الطبيّة منعدمة
- دخول المستشفى كدخول السوبرنايت كلوب حيث لا نستقبَل نحن بل تستقبَل حافظة نقودنا ويقول لنا الاستقبال ما يقوله لنا حارس البوابة «المكان محجوز»
- التمريض يعتبَر عملاً مكمّلاً ولا يكافأ بالتناسُب مع غيره من المهن الطبية
- جلّ العمل الرعائي غير مدفوع الأجر سيقع على عاتق العاملات المهاجرات، واللاجئات، والنساء في البيوت
إذاً، لا يزال قرع الطناجر دعماً أنسب لمرضى الكورونا ومرضى النظام والأجهزة الطبية الساهرة على راحتهم.
تستثمر الدولة في التعبئة العامة، باعتبار أنّ الوباء يسطّح الفروقات السياسيّة بين الناس، وأنّ الأزمة إنسانيّة ومجرّدة، و«أكبر منّي ومنّك». تغضّ النظر عن الناس الذين شرّدتهم خارج المنازل، حبستهم في السجون، أضعفتهم، جوّعتهم، نهبتهم، والذين لن يتاح لهم التسلّل برشاقتهم المتخيّلة إلى عداد الأبطال الذين يحموننا من الكورونا. هؤلاء لن ينسوا حقدهم الطبقيّ وسيستبدلون التعبئة العامّة بالحشد الشعبيّ.