لا سرديّة ممكنة في طرابلس سوى الصدام. ومحاولات تأجيله لا بدّ أن تنتهي. ما كان يجب معالجته وتراكم على مدى عقود، صار بعبعاً. وما كان يجب تضميده من جراح، لم يعُد سوى قعرٍ غائرٍ سيسقط فيه الجميع ولو بعد حين.
الصراع قائم منذ أجيال وبوتيرة تقوى وتتضاءل. لكنّه اليوم أكثر وضوحًا. لقد وجد الناس قاعدتهم. وجدوا بعضهم بعضاً أيضاً بعد تيهٍ حول كلمة الله المنصوبة في مدخل المدينة. كأنّ الله، لمرّة واحدة، فعلَ فعلته ووحّد السكان أمام مرايا واقعهم. عرّف بعضهم إلى بعض، إلى لغتهم وسلوكهم العام، إلى نكاتهم وذاكرتهم الجماعية، إلى مرارتهم وغضبهم. من هنا قد يُعاد بناء سردية المدينة من جديد. وإلا، فما كان ممكناً التعايش معه سيستحيل خراباً مُعلَناً هذه المرّة، مهما تمّت مكْيَجَته.
نحن أمام صراع طازج وصلب. خارج لتوّه من رحم المدن الصغيرة في طرابلس، المدينة الأكبر، الأمّ التي لم تعد أمًّا، أو بالأحرى الأمّ التي لا تحبّها ولا تنفصل عنها. تلك المدينة- المدن كشفت عن وجوهها على دفعات، كان آخرها بعد انخفاض حماسة الثورة، أو محاولة إضعافها وإخمادها وشيطنتها.
لم تعُد المدينة واحدة. لم تكن في الأصل. تاريخيًا، كان هناك المدينة الداخلية والخارجية، ما خلف السور وما خارجه. لاحقًا، صارت المدينة مدينتَيْن يفصل بينهما البولفار. ومع حكومات ما بعد الطائف، صارت طرابلس مدنًا عدّة، بعضها ينمو ويكبر بشراهة وطمع، وبعضها يذوي وبعضها يتاجَر به أو يُشوَّه. مدن لها جيوب مخفية. مدن ميتة، وأخرى حيّة أو تعيش على المسكنات. مدن بارزة، وأخرى هامشية أو مطمورة. فما كوّنتْه أحزمة البؤس لم يعد من السهل تصنيفه ضمن مدينة واحدة. وما نسجتْه الحدود المستجدّة، فصل المدن الصغيرة عن بعضها بعضاً.
بعد الثورة خرجت المدن المطمورة إلى الواجهة. رأينا سكانها المفقودين تحت جلدتها وزواريبها وقِبَبها وحواريها الممنوعة وليلها البائس، يخرجون الى ساحة النور، بجيوبٍ فارغة وأصواتٍ مكلومة. أعمالهم منقطعة، تشبه يوميّاتهم. رأينا سكان المدن المتردّدين. أولئك الذين نزلوا وأياديهم على قلوبهم. تركوا أعمالهم ووظائفهم بحماسة بدّدها الخوف والحاجة وأشياء أخرى للخصوصية الطرابلسية تاريخ معها. فالمدينة عُرِفتْ ما قبل اللَّبْنَنَة بأنّها مدينة تجّار وموظّفين، ولا تزال تحتفظ بشيء من طباع هذه الفئة، ولو بأشكال مختلفة وبتحفّظ أقلّ. في هذه الطبقة تحديدًا، نشأ الخوف، ونشأت الحواجز، واكتمل الصراع اليوم بأيديولوجيّته التامّة وبقواعد لعبةٍ محكومةٍ بعاملٍ اقتصاديّ أساس، وبعوامل سوسيولوجية وجغرافية ثانوية.
ثمّة قراءةٌ أخرى استجدّت بعد تداخُل هذا النسيج في لحظة الثورة، واختلافه بشأن استمرار وجود الخِيَم في لحظة فتور الثورة، وتخوين ما بقي من مجموعات ناشطة وشابة أو أفراد لا مأوى لهم سوى الساحة العامة التي صارت بيتاً. هذا التهويل من استمرار بقايا الثورة في ساحتها، نشاطًا واجتماعًا وتنسيقًا وتدريبًا، واعتباره مسؤولاً عن شَلّ المدينة، هو تهويل تبني عليه القوى السياسية التي أفقرت الناس، وطبقةٌ غنيةٌ بنتْ قوّتَها وميراثها وسلطتها وثرواتها ولا تزال أقوى ممّا كانت عليه، وطبقةٌ تعتاش على الموقَّت الثابت، تُدعى الطبقة الوسطى، وتصدر مخاوفَها كلَّ يومٍ أمام الفقراء وتحمّلهم مسؤولية عجزٍ أصله الدولة وعرقلةٍ سببُها الفساد. هذه الطبقة قوّتُها دافعة وحارقة. ولأنّها تظلّ عددًا وتأثيرًا ذات قوّة، فهي أكثر الطبقات تصادمًا مع الثوّار أو ما بقي منهم، آملًا ومحاولًا ومجرِّبًا ومقاوِمًا، ولو باللحم الحيّ.
الحرب الطبقية صارت مُعلَنة. حربٌ ثلاثيّة الأطراف. طبقةٌ واحدة في مواجهة طبقتَيْن تتّحدان اليوم أكثر من أيّ وقت مضى. طبقةٌ فقيرة تواجه سحل طبقتَيْ الأغنياء ومتوسّطي الحال. هؤلاء الذين يخافون على يومٍ دراسيّ ضاع من عمر أبنائهم، أو يخافون على معاشاتٍ تضاءلتْ، أو يفكّرون بأقساط سيّاراتهم وبرحلةٍ سنويّةٍ واحدة إلى بودروم التركية، أو بشراء «جهاز» بناتهم. هؤلاء الذين يتحسّرون على صبحيّات وعصرونيّات مقاهي «الضمّ والفرز»، وهم يمجّون من بزّ الأركيلة. هؤلاء الذين كانوا حين يعودون من يوم ثوريّ، يحسبون حسابًا للزعيم الذي وظّف ابنهم أو أعطى منحةً لآخر، أو اشترى لأحدهم تذاكر لأداء مناسك العمرة. لهذه الطبقة الحربوقة التي وضعت رجلاً في الحقل ورجلاً في البور، كي لا تخسر شيئاً، لا تُغالوا في التصويب على الثوّار والثورة. ستحتاجونهم يومًا، حين يلتهمكم الزعيم والفاسد.