…ثمّ اندلعت الثورة السوريّة.
استقبلت بيروت بذهول صور الهواتف المغبّشة التي التقطها السوريّون في درعا والشام وحمص.
غباشة الصور لم تحجب وضوح المشهد.
اكتشفنا شعبّاً نعرفه. غيّبه عنّا جلّادنا المشترك. اكتشفنا شعباً مفعماً بالإبداع والشوق للحريّة. اكتشفنا أسماء مدن وقرى، وهتافات وأغاني ورسوماً، وروايات ملحميّة لسوريّين وسوريّات أدهشوا العالم بشجاعتهم.
لكنّ وضوح المشهد لم يكن موضع إجماع القوى السياسية، وخاصة أطراف الشارع العلماني واليساري عام 2011، والذي كان يحاول استيراد الثورات العربية لبنانيًا عبر تحرّكات «إسقاط النظام الطائفي».
فاليساريّون الممانعون الذين هتفوا الى جانبنا ضد النظام الطائفي ومع حريّة الشعوب العربيّة، تلعثموا بعد انطلاق الثورة السوريّة، وقابلوها بسرديات خجولة وحذرة، إن لم تكن مؤامرتيّة. واستمر إرباكهم حتّى سمحت آلة القتل الأسديّة وعسكرة الثورة ثمّ أسلمتها وتدويلها، بتعليب السرديّة السوريّة في خانة التصدّي للمشروع الامبريالي في المنطقة.
أمّا نحن، فرأينا في انتفاضة الشعب السوري بوادر متينة لمسار تحرّري، يرى أنّ ديموقراطيّة سوريا من استقلال لبنان، وأنّ حريّة فلسطين من تحرّر العرب من أنظمتهم القمعيّة، المطبّعة منها والممانعة.
شكّل التباين حول قراءة المشهد السوري إحدى أبرز النقاط الخلافيّة لدى الحركة الاعتراضيّة عام 2011. وتعمّق هذا الشرخ بعد اعتصام داعم للثورة السوريّة نفّذه ناشطون يساريون وعلمانيون امام السفارة السوريّة في الحمرا في آب 2011، حيث تعدّى مناصرون للحزب السوري القومي الاجتماعي على المحتجين، مما ادّى إلى سقوط جرحى.
في هذا السياق، بدأ يظهر تقارب بين طلاب النادي العلماني وطلاب سوريين في الجامعة الأميركيّة، أثمر في إنشاء حملة في آذار 2012 تحت عنوان «طلاّب من أجل سوريا حرّة» تهدف إلى نشر الوعي في الجامعة حول الثورة السورية، والتعبير عن تضامننا مع الشعب السوري. لم يسبق تلك الحملة أي نشاط ثقافي أو سياسي يتناول الثورة السوريّة في الجامعة الأميركيّة. فرأينا في هذا الصمت خيانة لإرث الجامعة ولمدينة بيروت التي تخلّت عن دورها التاريخي كمنصّة للتحرر العربي.
كان أول نشاط أقمناه، عبارة عن flash mob امام مبنى الوست هول، لم يكن عدد المشاركين فيه يتعدّى الخمسة عشر شخصاً، ورفِعت فيه لافتة لخّصت جدوى حركتنا باقتباس مقال للروائي الياس خوري:
بيروت تعرف أنّ الصمت مشاركة في الجريمة، ومع ذلك تصمت. في الشام يقتل شعب بالرصاص وتداس وجوه الناس بالأحذية، في الشام شعب كامل ينتفض لكرامته وحريته وحقه في الحياة. والشام ليست بعيدة عن بيروت، ولكن بيروت تبتعد عن نفسها.
أربك هذا النشاط إدارة الجامعة وأحزابها، المؤيّدين والمعارضين للثورة، إذ نجح في كسر الصمت والخوف بعد حادثة السفارة السوريّة في الحمرا. من بعدها، تكاثرت نشاطات الحملة، فتضمّنت معرض كاريكاتور، ومأتماً رمزياً لشهداء الثورة، ووقفات تضامنيّة مع طلاب جامعة حلب. وخلال مشاركتنا باعتصام مندّد بعدوان الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزّة عام 2012، رفعت لافتة تعبّر عن تضامننا مع فلسطينيّي سوريا الذين كانوا يُقتلون في مخيّم اليرموك وسط صمت قوى الممانعة. فمُزّقت اللافتة واعتدي على الطالب الذي حملها، واستمرّ القمع خارج أسوار الجامعة بعد توقيف سيارة الطالب في شارع بليس وتهديده والتعدي عليه.
أكّدت تلك الحادثة عمق خلافنا الأخلاقي والسياسي والعقائدي مع قوى الممانعة، وساهمت في خلق وعي مشترك لبناني سوري حول ضرورة بلورة نهج سياسي جديد، يحرّر قضايا التحرّر في فلسطين وسوريا ولبنان من الاستغلال والانتهازيّة وازدواجيّة المعايير.
انعكست هذه التجربة على مسار النادي العلماني في الجامعة الاميركيّة الذي شارك عدد كبير من طلابه في تأسيس الحملة. فساهم في تطوّر خطاب النادي ليشكّل حالة سياسيّة متمايزة، رافضة لاصطفاف 14 و8 آذار، وحاسمة في خياراته السياسيّة المفصليّة عبر معارضتنا الصريحة لدور حزب الله لبنانيّاً وسوريّاً وعبر التزامنا بالقضيّة الفلسطينيّة وتحرّر الشعوب العربيّة في آن واحد.
لم تستطع تجربة «طلاب من أجل سوريا حرّة»، والتي أثمرت نقاشات ومواقف وصداقات، أن تبني مشروعاً سياسيّاً مشتركاً. فقساوة اللجوء في لبنان دفعت البعض الى البحث عن منافٍ أخرى. وآلة القتل الأسديّة وبداية الهزائم السياسيّة والعسكريّة، دفعت البعض الى خيارات سياسيّة لم تعد تشبه طموحاتنا المشتركة.
أمّا نحن، فتفرّغنا للشأن الداخلي بعد أن أصبح طرحنا السياسي أكثر شعبيّةً داخل الجامعة وخارجها. واستمرّينا في مسار الحركة الاعتراضيّة، من مواجهة التمديدَيْن للمجلس النيابي، إلى حراك 2015 والانتخابات البلديّة، وصولاً إلى 17 تشرين. إلّا أنّ سرعة الهبوط أعادت الشلل والإفلاس السياسي أمام الانهيار الزاحف.
بعد 10 سنوات على انطلاقها، لم يعد لذكرى الثورات العربية أثر في مدننا البائسة. فالثورات المضادة كسرت موجة التضامن، وشوّشت وضوح الصورة، وحاصرتنا في زوايا انشغالاتنا الوطنيّة. فشلَّتْنا الواقعيّة وانحجب أفق الخيال. دفع الأمر البعض إلى الانغلاق في الملاعب الوطنيّة والرضوخ للخيارات البراغماتيّة. إلّا انّ ذلك لم يجنّبنا النكبات:
في سوريا ديكتاتور يبيد ويهجّر شعبه ويحكم على الركام والأشلاء في أرض تتناتشها مصالح الدول. في فلسطين، احتلال يقتل ويسجن ويهين ويسلب ويقتلع شعباً من أرضه، وسط تواطؤ حكّامه وحكّام العرب والعالم. في لبنان، شعب مخطوف من قوى المال والسلاح، يقتَل وينهَب ويجوَّع ويذَلّ ويهجَّر.
أمّا الرهانات على المحاور والدول العظمى بحجّة المصلحة الوطنيّة، فسقطت هي الأخرى:
لا الإدارة الأميركيّة ودول الخليج التي سمسرت بيع فلسطين، انتصرت للشعب السوري ضد جلّاده. ولا حلف الأقليات في لبنان الذي شرّع لحزب الله ارتكاب جرائمه في سوريا جنّب لبنان الكوارث. ولا إيران وقوى الممانعة التي تذبح السوريين وتقمع اللبنانيين باسم المقاومة، عاونت الفلسطينيين في مأساتهم.
لكن في بلادنا المحروقة والمحتلّة والمسلوبة، تبقى لحظة الـ2011 ركيزة صلبة لبناء أفق سياسيّ يتخّطى السياقات الوطنيّة.
في زمن بات فيه المأزق مصيراً مشتركاً لشعوبنا، لا بد من إعادة بناء قنوات فكريّة وتنظيميّة عابرة للدول، تمهّد لنشوء قوى سياسيّة متحرّرة من سطوة المحاور ومتمسّكة بمشروع تحرّري شامل، يؤمّن لكل شعوب المنطقة الحق في تقرير مصيرها.