تعليق ثورة تشرين
سامر فرنجية

ثورة وغاز وكوليرا

17 تشرين الأول 2022

الثورة بعد ثلاث سنوات

عادت الثورة في ذكراها الثالثة.

لم تعُد كفعل سياسي. هذا بات وراءنا، ولن يعود. 

عادت الثورة كواجب استذكار، أو كسؤال عمّا حدث في هذه الساحات على مدار أشهر طويلة، قبل أن يأتي الانهيار الكبير ويحوّل كل شيء إلى ركام. لكنّ هذا السؤال، وإن كان يفرض نفسه اليوم بعد ثلاث سنوات، يبدو باهتًا، حتى قبل البحث بالإجابات المحتملة له. فهو ليس سؤالاً جديداً، وقد تكرّر بأشكال مختلفة منذ أكثر من عقد لمحاولة «إنقاذ» أثر ما للثورات العربية بعد عودة الأنظمة وعنفها. وتحوّل مع الوقت إلى عملية تشبه ورش «التنقيب»، تهدف إلى البحث عن أدلّة تشير إلى هذا الحدث الثوري. 

في وجه حاضر ينغلق تدريجيًا على ذاته ليبرّر الرضوخ لأنظمة الأمر الواقع، لم يبقَ إلّا التنقيب عن الثورة. فقد مرّ زمن الاستذكار السياسي للثورة، وربّما لم يأتِ بعد زمن البحث المعرفي فيها، وبات السؤال اليوم مجرّد محاولة لإحداث «فجوة» في رواية هذا الحاضر عن ذاته، «فجوة» مفادها أنّ الحاضر غير مكتمل، ولن يكتمل مهما رمّم ذاته.


حدود النظام الجنوبيّة

عاد النظام من باب حدوده البحرية.

تزامنًا مع ذكرى الثورة الثالثة، وقّع لبنان اتفاقية ترسيم حدود مع إسرائيل، ستفتح الطريق أمام عمليّات تنقيب في البحر المتوسّط. أعلن النظام انتصاره. فاستطاع الخروج من عزلته الدولية والحصول على بعض التنازلات من الطرف الإسرائيلي، جراء تحوّلات دوليّة فرضت الاتفاقية على الجميع. كما أمّن الاتّفاق أفقًا ماليًا جديدًا، قد يتحقق أو لا، لكنّه يضخّ بعض الحياة في الاقتصاد المنهار للنظام المتعثّر. 

يمكن للتغييريين أن يخوّنوا هذا النظام  لتخلّيه عن الخط 29. لكنّ هذا التذاكي الكلامي يتجاهل موازين القوى الفعلية، في مزايدته «المقاوِمة» على المقاومة. وهذه المزايدة لن تلغي واقعاً أظهره الاتّفاق، وهو أنّ حزب الله هو الطرف الوحيد في لبنان اليوم القادر على القيام بمفاوضات وتنازلات واتفاقيات كهذه. فمحاولة التذاكي «المقاوِم» على حزب الله ليست إلّا تسليمًا بهذا الواقع من قبل هواة سياسة باتوا في نقدهم للحزب يخضعون لمنطقه. 

يجري التنقيب عن الثورة في وجه التنقيب عن الغاز والنفط. فقد فهم النظام أنّ الرد على هزيمته الخطابية سيأتي من تفوّقه المادي. 


دولة نفطيّة - بلد الكوليرا

عاد وباء الكوليرا إلى لبنان.

أعلنت وزارة الصحة تسجيل أول حالة منذ العام 1993، قبل أن تعلن قبل بضعة أيام عن أوّل حالة وفاة جراء هذا الوباء. بات لبنان، في لحظة دخوله إلى نادي الدول النفطية، ضمن قائمة دول أخرى، تلك الدول التي «عاد» إليها وباء الكوليرا جراء الحروب وانهيار البنى التحتية. 

قد لا تشكّل عودة الكوليرا أخطر خلاصات الانهيار الحالي، ولكنّها من أكثرهم رمزية. فتجسّد هذا الإحساس العارم بـ«العودة إلى الوراء»، بعد أن شكّل القضاء على وباء الكوليرا إحدى دلالات التحديث والتقدّم. كما تعمّقت حالة الانفصام الداخلي، بين «دولة نفطية» من جهة، و«بلد الكوليرا» من جهة أخرى. وحالة الانفصام هذه ليست مرحلية بالضرورة، بل قد تشكّل مسودة عن طبيعة المجتمع قيد الإنشاء اليوم، مجتمع يتقاطع فيه منحى انحداري يتّجه نحو الأوبئة ومنحى ريعي مدفوع من عائدات الغاز والنفط. ولن يحكم هذا الانقسام بين النفط والكوليرا إلّا عنف النظام المرتسم الحدود.


عوداتٌ مختلفة

يمكن قراءة هذه الأحداث المتفرّقة بطرق مختلفة. 

يمكن سردها بتسلسل زمني، يبدأ مع الثورة كماضٍ، ثمّ ينتقل إلى النظام حاضرنا، قبل أن ينتهي بثنائية بلد الكوليرا/ الدولة النفطية كمستقبلنا المتوقع. تسلسل زمني انحداري، يبدأ من «مستقبل متخيّل» شكّل يومًا ما ثورةً قبل أن ينتهي بكابوس النفط والوباء. لكن يمكن أيضًا البحث عن الفاعل وراء هذه الأحداث، عن نظام أنتج ثورة جراء فشله، قبل أن يستجدي عدوَّه اللدود لإنقاذه من خلال صفقة نفطية، لكي يعيد انتاج اقتصاده السياسي. كما يمكن التأمّل بهذه الأحداث لاستشعار كيفية تداخل المادة في سياستنا، من أوبئة ومواد خام وخطوط بحرية، تداخل فضح الثورة كآخر محاولة لإرساء سيادة الفكرة على المادة. 

يمكن قراءة تلك الأحداث بطرق مختلفة، لكنّ الثابت الوحيد هو أنّنا لم نعُد في هذا العالم الذي أنتج يومًا ما ثورة. فما نتذكّره عندما نستذكر الثورة بعد ثلاث سنوات على حصولها، هو هذا العالم الزائل حيث كان لجملة «الشعب يريد» معنى، وكانت المادة ما زالت تحت سيطرة الفكرة، وكان إسقاط النظام ممكنًا من خلال خطوة بسيطة كاقتحام مجلس. ربّما لم يكن هذا العالم موجودًا أصلًا، لكنّنا احتجنا ثورةً وصلت إلى حدودها القصوى وانهياراً طال أسس الحياة ومادّةً عادت بشتّى الأشكال، للتأكّد من ذلك. 

نتذكّر الثورة اليوم، والنظام يتقاسم النفط مع إسرائيل في ظل عودة وباء الكوليرا. نتذكّرها لكي نودّع هذا العالم القديم، الذي اعتقدنا يومًا ما أنّه من الممكن أن نكون في وسطه، لكي نستقبل عالمًا جديدًا، لا مكان لنا فيه إلّا على هوامشه. 

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
ناشطون إثيوبيّون: محمد بن زايد شريك في الإبادة
إصابة عناصر في اليونيفيل باستهداف سيّارة في صيدا
الكنيست الإسرائيلي يقرّ ترحيل عائلات منفّذي العمليّات لمدّة 20 عاماً
إسرائيل تدمّر مبنى المنشية الأثري في بعلبك
جماهير «باريس سان جيرمان»: الحريّة لفلسطين
مطار بيروت يعمل بشكل طبيعي