وصلت، هذا الأسبوع، منصّة الحفر Transocean Barents إلى البلوك رقم 9 اللبناني تمهيداً لبدء عمليات الحفر الاستكشافية عن النفط، وأكّد وزير الطاقة وليد فيّاض أنّ أعمال الاستكشاف ستبدأ بعد أيام، على أن تصدر نتائج العملية بغضون 80 يوماً. في حال وجدت الحفّارة بالفعل كمّيات تجارية، فإنّ لبنان لن ينعَم بأي إيرادات من قطاع النفط والغاز قبل 5 إلى 10 سنوات على أفضل حال. أمّا في حال لم تجد…
التشريع العبثي كموضع شبهة
تمكّنت الحماسة من المُشرّع اللبناني، إذ كان يُفترض أن تُعقَد جلسةٌ لتشريع الضرورة، الخميس 17 آب، لكنّ النصاب لم يتأمّن. على جدول أعمال هذه الجلسة، بندٌ حول مشروع قانون لإنشاء صندوق البترول السيادي.
هنا تكمن المفارقة الأولى: أن يشرّع المجلس النيابي، تحت جناح الضرورة والعجلة، قانوناً لإنشاء صندوق لن يملك أي وظيفة لفترةٍ قد تمتد إلى عقدٍ من الزمن. وبعد مرور هذه الفترة، على هذا الجهاز أن ينتظر عدّة سنوات أخرى، حتّى تتراكم العوائد في خزينته، من أجل «إدارتها».
المفارقة الثانية: أنّ المجلس يبحث في تشريع المبادئ العامة التي سوف ترعى كيفيّة استثمار أو ادّخار أو استعمال عوائد قطاع النفط والغاز، قبل أن يتبيّن حجم هذه العوائد، وحجم الكمّيات التجارية الموجودة، وقبل أن يضع لبنان استراتيجيةً تحدّد نسبة الغاز التي يمكن تصديرها وبيعها بالعملة الصعبة مقابل تلك المطلوبة محلّياً وعوائدها بالعملة المحلية.
إنّه التشريع العبثي إذاً. لا تكمن إشكاليّة هذا التشريع في أنّه سابق لأوانه فقط، بل أيضاً في الألغام والثغرات التي ينطوي عليها مشروع القانون، والتي تُهرَّب باستعجالٍ مُريب. هنا، تصبح العبثيّة والتسرّع موضع شبهة. لا سيّما وأنّ قانون الموارد البترولية في المياه البحرية حصر أساساً إمكانيّة استعمال الإيرادات البترولية بالصندوق السيادي المُنتظر، ما سوف يمنع المسّ بأي إيرادات بتروليّة محتملة قبل إيداعها في هذا الصندوق عند تأسيسه.
كل ما سبق، لا ينفي الحاجة إلى صندوقٍ سيادي يستوعب إيرادات ثروة النفط والغاز، لتحييدها عن الميزانية العامّة وما قد يُهدَر فيها من أموال، ولادّخارها من أجل الأجيال المقبلة، وربّما لاستثمارها في مشاريع منتجة محلياً أو في الخارج.
لكن يبقى السؤال: ما الهدف من حرق الخطوات واستعجال تمرير القانون، وبمثل هذه الصيغة الرثّة؟
ألغام مشروع القانون
قراءة مضمون مشروع القانون تكشف الألغام التي يتم تهريبها: مثلاً، جميع العائدات الضريبية من الأنشطة البترولية سوف تذهب إلى «محفظة التنمية» داخل الصندوق، فيما يتيح القانون استعمال هذه المحفظة لتسديد الديون العامّة.
بهذا الشكل، وبدل أن يُحصَر استعمال أموال الصندوق السيادي لادّخار الثروة من أجل المستقبل، أو لتوظيفها في الاستثمارات المنتجة، سوف تُستخدَم هذه الأموال لإطفاء أعباء المراحل السابقة، وهو ما يناقض هدفَي الصندوق الأساسيَّين (الادّخار والاستثمار). وبما أنّ حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة قد حوّل بالفعل خسائر القطاع المصرفي بأسرها إلى ديونٍ عامّة في ميزانيّة مصرف لبنان، فسيكون بالإمكان استعمال إيرادات الأنشطة البتروليّة لإطفاء خسائر المصارف بالتحديد. وفضلاً عن الخسائر السابقة، يتيح القانون ردم العجوزات المقبلة في الميزانيّات العامّة، التي تُعالَج عادةً بالاستدانة. وهذا ما يتعارض مع دور الصندوق في إدارة وحماية فوائض البترول المالية.
أمّا حول سلطة الوصاية على الصندوق، فدارت بالأشهر الماضية تجاذبات بين التيّار الوطني الحر الذي أصرّ على وصاية رئيس الجهوريّة على الصندوق، وحركة أمل التي طالبت بوضعه تحت وصاية وزير المالية. وعلى الطريقة اللبنانية، قضت التسوية بإبقاء الصندوق تحت سلطة مجلس الوزراء مجتمعاً، ما يعطي جميع الطوائف يداً في الإشراف على الصندوق واستثماراته. بهذه الخفّة، تَقَرَّر من سوف يُدير هذه الثروة.
بيع الأوهام
لا يمكن النظر إلى مشروع القانون المُستحدَث والاحتفاء المبالغ فيه بوصول الحفّارة من دون التطرّق إلى المرحلة التي انقضت. ففي الأعوام الأخيرة، لم تُنفَّذ الإصلاحات المطلوبة لدخول مسار التعافي المالي، ولم تُحَدَّد الخسائر بوضوح، وصار إلى تهريب النخبتَين المالية والسياسية من المسؤولية، ولم تُنفَّذ شروط التفاهم المبدئي الموقّع مع صندوق النقد الدولي. باختصار، مُضيّ البلاد في حالة السقوط الحر بات مساراً متعمّداً.
كجزء من هذا المشهد بالذات، يصبح الحديث عن الثروة البترولية الموعودة بيعاً للأوهام، مع رهاناتٍ تعد اللبنانيّين بإمكانية الخروج من الأزمة عبر عائدات البترول المنتظر، من دون معالجة مسبّبات الأزمة ومن دون سلوك درب الإصلاحات المطلوبة للخروج من دوّامة الانهيار، وبالتأكيد، من دون محاسبة المُرتكبين.
من هذه الزاوية بالذات، يمكن فهم مواقف أركان السلطة من هذه الثروة، وعلى سبيل المثال لا الحصر:
ذكر أمين عام حزب الله حسن نصرالله مراراً الغاز بوصفه علاجاً للمأزق الاقتصادي الراهن، مستعرضاً دور المقاومة في حماية هذه الثروة، بصرف النظر عن دور الحزب كحامٍ للمنظومة
ومصرفيّون كثر تعاملوا مع الثروة البتروليّة كمصدر محتمل لردّ الودائع؛
ونوّاب حركة أمل قد تقدّموا بمشروع قانون لمعالجة أزمة المودعين وسد جزء من فجوة الخسائر عبر إيرادات الغاز.
في جميع الحالات وأمام السقوط الحرّ، فإنّ وتيرة الاستنزاف الاجتماعي والاقتصادي لن تنتظر السنوات الطويلة التي يحتاجها التنقيب عن الغاز (ثم تطوير الحقل والاستخراج ومراكمة الربح، هذا إذا وجدت كمّيات تجارية بالفعل). كما ينبغي التذكير أنّ الإيرادات المنتَظرة لن تمثّل في السنوات الأولى، وفي أفضل التقديرات، سوى نقطة صغيرة في بحر الخسائر المصرفية المتراكمة.
بالتأكيد، يدرك السياسيون والمصرفيون ذلك، لكن هذا لا يهمّ طالما أنّ المطلوب تعليق آمال اللبنانيين بوعدٍ جديد في نقطةٍ زمنيةٍ مستقبلية، عوضَ تقديم الحلول الفعلية لأزمةٍ وقعت بالفعل وما زالت تتعمّق عمق المحيطات نفسها.