تحت دخان سيجارة أُخبّئ موتى وأُخبّئ أحياءً كي لا يموتوا
أُحاول أن أطرد الموت
بدخان.
بالحطب المتبقّي
بالدخان المتبقّي
أُحْيي ذكرى شجر وناس
تعانقوا
وصاروا دخاناً.
— وديع سعادة، بقليل من الحطب بقليل من الدخان
المنقرزين
في يوم من أيام شهر آذار من العام الجاري، وأثناء مروري بشوارع دير البلح، استوقفني تجمهُر الناس في منطقة المدفع، عند باب متجر مهمّ من متاجر التبغ ومشتقاته. للوهلة الأولى، ظننتُ أن ثمّة ندوة سياسية تُعقَد، أوأنّهم أشخاص يعملون في مجال الإغاثة ويخطّطون لتنفيذ مبادرة معينة. ما أن اقتربتُ حتى وجدتُهم عابسين مستغرقين في نقاش جديّ، يُنصِتون بتركيز تامّ لرجل ثلاثيني، رغم كونه لا يوحي برفعة الشأن. كان يقول بنبرة حازمة: حماس لازم تحل حالها وتحلنا، إحنا مش لازم نضل ساكتين ولازم نطلع مسيرات! سمعت من خلفي رجلًا طويل القامة يردف قائلًا: يا عمي بدهم حرب يكملوا الحرب… بس يحلونا!
تراجعتُ خطواتٍ قليلة. كانت نبرته تَشي بالعصبية والحدّة، وشرر الغضب ينطلق من أعينهم جميعًا. استفسرتُ عمّن يكونون، أهُم قادةٌ في حزب معيّن؟ أم أنّهم تجمّع شبابي ينظّم نشاطًا سياسيًا؟ فما كان من صاحب محل الخضروات في الجهة المقابلة إلا أن أجابني، قاطعًا حيرتي فيهم: إنهم «المنقرزين».
باللهجة المحكيّة الغزيّة، يُفهم «النقراز» على أنّه الحالة التي تصيب المدخّن الشَرِه عندما تعتريه الحاجة الملحّة لاستهلاك التبغ، فيحدث ضيق في نَفَسه، وألمٌ في جسده أحيانًا. يجد «المنقرز» نفسه في حربٍ غير الحرب، حرب يقف فيها وحيدًا، فلا يكون له الحق في الاعتراض خشية أن يحكم عليه الناس بتطلّب الكماليات في ظلّ الأوضاع العصيبة التي نشهدها. وتضخّم أسعار السلع الأساسية، على ندرتها، كالأرزّ والعدس، صارت أسعارها جنونية، وبات الحصول على الدقيق غاية شبه مستحيلة. كما غابت عن المستشفيات والمرافق الطبية معظم الأدوية والأدوات الضرورية، حتى اضطر الأطباء إلى إجراء العمليات الجراحية في الممرات والأروقة دون تخدير. ولكن بالنسبة للمنقرز، فهو يرى في غياب سيجارته ما يراه الجرّاح في غياب التخدير.
مناشير وإحصائيات
في 25 نيسان الماضي، صدر عن الإعلام الحكومي التابع لحكومة غزة بيانٌ يفيد بأنّ سلعة الدخان لم تدخل إلى القطاع بكميات تجارية منذ 7 تشرين الأول، مشيرًا إلى أنّ الاحتلال الإسرائيلي يمارس الضغط على المواطنين بشكل مقصود ومتعمّد، وقدّ تم توريد ثلاث شاحنات إلى معبر كرم أبوسالم غير أن الاحتلال منع إدخالها إلى قطاع غزة. كما لفت البيان إلى أنّ عملية عرقلة إدخال السلع، والدخان تحديداً، ومنعها، تأتي في سياق تشديد الحصار على قطاع غزة وتغيير المزاج العام والعبث بالبعد الاجتماعي.
في السياق نفسه، شرح عادل عمرو، مسؤول قطاع النقل في الضفة الغربية خلال محادثة مع الكاتب: إنّ سبب منع الاحتلال لإدخال الدخان يكمن في رغبته بمنع انبساط المدخّنين، وجعل المدخن في حالة عصبية باستمرار، وأضاف:
هذا ما قاله ضابط إسرائيلي يعمل في معبر كرم أبو سالم لأحد سائقي الشاحنات. وللاحتلال مآرب أخرى، فهو مدرك أنّ نسبة المدخنين في قطاع غزة عالية، ويرى في ذلك نقطة ضعف يستطيع من خلالها تجنيد العملاء. لم يكن هذا توقعًا، كما لم تخفِه إسرائيل، فقد قامت طائرات الدرون التابعة للاحتلال في 12 آب بإلقاء منشورات تستهدف المدخنين وتحرّضهم على المقاومة، وألصقت سيجارة واحدة بكل منشور، ومعها رقم هاتف وعبارة «في حال أردت المزيد من السجائر، اتصل على الرقم».
بتاريخ 21 أيار 2024، نشرت وزارة الصحة الفلسطينية إحصائية تفيد بأن نسبة المدخنين للفئة العمرية 18-69، والذين يدخّنون منتجًا أو أكثر من منتجات التبغ المستهلك في فلسطين، تبلغ حوالي 33.5٪، وأنّ 55.1٪ من الذكور مدخّنون، وأكثر من ثلث المدخّنين هم من فئة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18-29 عاماً، كما أنّ نسبة المدخنين في فلسطين هي الأعلى في منطقة الشرق الأوسط.
قد يظنّ من هم خارج دائرة النار أنّ انقطاع المدخنين في غزة عن النيكوتين مسألة ثانوية، طالما أنّ هؤلاء عالقون بين مطرقة حرب الإبادة وسندان الحصار المطبق. يحاجج كاتب هذا النصّ أنّ غياب الدخان خلال الحرب طبع ردود أفعال الناس تجاه مجريات الأحداث كما وتعاملهم بين بعضهم بعضاً، وفي النسب المذكورة آنفًا يمكن قراءة سبب إضافي كفيل بتعكير مزاج ثلث الغزّيين، وأنّ 55.1% من الرجال لن يكونوا على حالتهم العادية قبل انقطاع الدخان، مما يضفي بعدًا مأسويًا آخر للحرب، يتمّ تجاهله لاعتبارات عديدة.
ثمن السيجارة 33$
دفع المنع الرسمي التجّارَ المهرّبين إلى ابتداع طرق جديدة لتهريب الدخان إلى القطاع. وفي ذلك يقول الأستاذ عمرو: في البداية تمّ التنسيق معي من أجل إدخال البضائع التجارية إلى قطاع غزة، تمّ تحديد أنواع البضائع المسموحة والممنوعة، ولم يكن هناك تهريب للدخان، ولكن بعد ثلاثة أشهر ظهرت عمليات التهريب في مختلف أنواع البضائع، الأمر الذي أدى إلى منع التاجر صاحب التنسيق من إدخال البضائع إلى قطاع غزة. وقد أوضح أن عمليات التهريب تلك أثرت على حجم المساعدات والشاحنات المسموح دخولها إلى القطاع من 250 شاحنة يوميًا لتصل إلى 40 شاحنة فقط.
لكن للمهرّبين حسابات مختلفة، إذ ما كانوا ليجنوا كل هذه الأرباح الطائلة لولا هذه التجارة.
في محاولة لتوثيق شهادة عقب محادثة هاتفية شابتها الريبة، توجهت نحو غرب دير البلح بهدف مقابلة مهرّب رفض التعريف عن نفسه، ولكنه شرح عملية التهريب قائلاً:
في مكان يُعرَف بالحسبة، نتفق على شراء كمية معينة من الخضروات أو الأطعمة في الضفة الغربية ليتم تحميلها بالشاحنات إلى مخازن متفق عليها مسبقًا، هناك نقوم بتفريغ الحمولة ونبدأ بتوضيب الدخان بين الخضار والبضاعة. تعبر الشاحنات عبر حاجز ترقوميا، حيث يصعب كشفها لأنّ البحث لا يكون يدويًا، ولكن الخطورة تكون عند وصول الشاحنات إلى معبر كرم أبو سالم، لأنه لو انكشف أمرنا هناك، يتم مصادرة البضاعة والخضروات، كما يهان السواق وشركة النقل، لكننا نتمكّن من تمرير البضاعة في أحيان كثيرة.
يقول المهرب بصراحة أنه، كحال غيره من التجار، يجني مبالغ مهمة من هذه العملية، يشتري علبة السجائر بما لا يتعدّى 4$، ويبيعها في قطاع غزة بعد التهريب بمبلغ قد يصل إلى 650$، وهذا يعني أن ثمن السيجارة الواحدة في قطاع غزة يقدّر بـ33$، وهي لا تكلّف المهرّب سوى بضع سنتات، ما يحقق له أرباحًا طائلة.
أكل الأولاد أو «دخان»؟
لم يؤثّر غياب التبغ ومشتقاته على المدخن وحسب، بل طال عائلته ومحيطه. خلال دردشة مع السيدة آية م.، وهي نازحة من شمال قطاع غزة، تشهد آية لطيبة زوجها الثلاثيني، وتقول أن السجائر (وهمّها) لم تشغل بالها يومًا، لا سيما أنّها كانت بمتناول زوجها المدخن الشره على الدوام. تتحدث عن دعمه المعنوي لها منذ بداية الحرب رغم هول الظروف التي قاسوها، فكان يهوّن عليها ويحثّها على الثبات: دائمًا كان الكلام والنقاش حاضراً بيننا، والحياة سهلة، ولكن في شهر كانون الثاني، أخذت أسعار السجائر ترتفع، وما أن دخلنا شهر شباط حتى قال لي: إما أن أجلب لكم الطعام أو الدخان لنفسي، وقرر أن يتوقف عن التدخين.
اعتقدت الزوجة أنّ القرار سيصلح حياتهم، ولكن سرعان ما اكتشفت العكس. بدأت أعراض عصبية تظهر على زوجها، وكلما سألته عن السبب، كان يردّه إلى الانقطاع عن التدخين ويطمئنها أنها فترة وستمرّ، فظنّت أنّها أعراض انسحابية. إلا أنّ الزوج عند كل فورة غاضبة، يؤكد لها: أنا لم أترك التدخين، بل هو الذي تركني. عندما ترجع الأسعار إلى ما كانت عليه سأعود وأشتري السجائر، أحبها وأعيش عليها وهي جزء مني، وكما أريد العودة إلى بيتي في الشمال، أريد العودة إلى التدخين.
إلا أنّ المسألة ليست محصورة برعونة الشباب، وفقًا لجمال الدردساوي، النازح من حي الشجاعية إلى دير البلح، وهو علم من أعلام الأسرة الرياضية قبل أن يصبح مديراً للعلاقات العامة في شركة توزيع كهرباء غزة. فقد قال في حديثه وهو على مشارف السبعين من عمره: أدخن منذ 55 عاماً، بدأت التدخين في سن مبكرة، ولم تكن ثمّة محاذير على التدخين حينها، ورغم انتمائي للأسرة الرياضية، وقد كنت في صفها الأول، إلا أنني طيلة مسيرتي الرياضية كلاعب كرة طائرة ونجم فلسطين، لم أتوقف عن التدخين.
عدّل من جلسته بعدما كان متّكئًا على فرشة أرضية وتابع قائلًا: رغم النقاشات العديدة عن موضوع التدخين والوصمة المثارة حوله من منطلقات شرعية واجتماعية وصحية وسواها، ما زال هناك مئات آلاف المدخنين، كثر منهم مثقفون ومتعلمون وناجحون، لا يمكن حصرهم بفئة اجتماعية أو عمرية معينة. للحظة، تخيلتنا في واحد من تلك المؤتمرات التي كنت أناقش فيها الأستاذ جمال عن تحديثات الكهرباء، ولكن هنا، بدا كمن يتحدّث باسم المدخنين، ولا يكتفي بعرض تجربته الشخصية فقط: التدخين كالصديق الوفي، يلجأ إليه المدخن ليحسّن مزاجه، وهذه علاقة كل مدخّن مع سيجارته. رغم مضي شهور دخنّا فيها مختلف أنواع الأعشاب في ظل انقطاعنا التام من الدخان، إلا سيجارة في ما ندر، ما برح المدخّن ينتظر خبر دخول الدخان.
من بعيد، يشاهد الأستاذ جمال نشوب الخلافات على أتفه الأسباب في أماكن النزوح، يراقب تطورها واحتدامها حتى تصل أحيانًا إلى مشاجرات بالأيدي أو الأسلحة البيضاء. بنباهته المعروفة، ينصح الأستاذ جمال مَن حوله بالبحث عن المدخن بين طرفي المشاجرة ليتأكدوا من فرضيته التي تصيب في كل مرة. يفسّر ذلك قائلًا: لو أنّ الظروف طبيعية وعلبة السجائر بيده، لكان أشعل سيجارته وما تهوّر بردّة فعله. في الشارع، كثيرًا ما تنشب المشاكل بين الأفراد بسبب انقطاع السجائر.
أكتب ما أكتب وأنا تحت تأثير غياب النيكوتين، وهذه مشكلة لا يبدو أن أيًا من الأطراف المعنية مهتمّ بمعالجتها، الأمر الذي يعقد من مهمتي الحالية. فلطالما رافقتني السيجارة خلال الكتابة، ويحلو لي أن أتخيّلها تكتب بدلًا مني عندما تنضب أفكاري، ولا أخفي أنني كنت معجبًا بتلك الأفكار والخواطر. لا أعلم كيف سأقضي هذه الليلة بعد أن أتوجه نحو الخيمة دون أن أحمل علبة الدخان التي كنت شديد الحرص على عدم نسيانها قبل مغادرة العمل نحو البيت. أجدني مضطرًا لقبول واقع لا يعجبني، ومجبرًا على ادّعاء الإقلاع عن التدخين، والحقيقة أنّ التدخين هو الذي تركني وسأنتظره ريثما يعود. في غزة، يواجه الفلسطيني همومه اليومية التي بالكاد يعرف حجمها المشاهدون من وراء شاشاتهم الصغيرة، يعتبرونها أمورًا بسيطة وسخيفة، ويطالبونه بتحقيق تصوّراتهم الخارقة عن الصمود دون بذل عناء المساندة.