يصعب عليّ فكرة متابعة ثورات الجزائر والسودان كمتفرّج غير فاعل وأنا مُحاطٌ بمشاهد العجز التام للمعارضة المصرية. ولكنّي تابعت باهتمام السجال الدائر حول إذا كنا كمصريين لدينا ما نقدّمه من نصائح للشعبين. عمومًا النصح يكون غالبًا شكلاً من أشكال «النوستالجيا» أكثر منه موقفاً عمليّاً. حنين لزمن كنّا فيه فاعلين ومؤثّرين.
كتب هذه الكلمات الناشط والتقني والكاتب والصديق علاء عبد الفتاح قبل أن يعود سجينًا في حملة الترهيب الأخيرة التي أدارها جهاز الأمن المصري بعدما تناثرت بذور حراك جديد ضد السلطة لا نعرف الكثير عنه بعد. كتبها قبل أن يقوم العراق، وقبل أن يقوم لبنان، وقبل أن تسنح له فرصة الكتابة مجددًا. كتبها قبل أن يتوقف، على الأقل ظاهريًّا، نموّ تلك البذور.
لم أتعلّق بثورة لبنان التي وصلتنا صورها وشعاراتها على مدار اليوم بمنطق الحنين، ولو أنها تستدعي الحنين. في الواقع، وبالرغم من هيمنة المشهد الشهير للثوّار كجسد واحد منصهر يبتلع ميادين الاحتجاج بحدودها، فقد فرضت ثورة لبنان نفسها كعدسة جديدة نعيد النظر من خلالها للبلاد تاريخًا وحاضرًا وخيالًا لمستقبل جديد. جسّدت الثورة خصوصيةَ مكانِها وزمانها في تفكيكها للصراع السياسي الذي تمكّن من هندسة نفسه ليصبح واقعًا اجتماعيًّا يعتمد الطائفية كمرجعية قاعدية، فأجبرتنا الثورة على أن نرى عمقًا جديدًا لمكانٍ تعلّمنا كلنا أنّ ما نعرفه عنه ليس إلا قليلاً وسطحيًا. فرضت الثورة نفسها بشكل يحرّرنا من الحنين لأنّها شغلتنا بتفاجئنا بها، بتوغّلها في أمكنة جديدة كل يوم، بجذبها لذوات مختلفة في كل مكان، بتحدّيها لكل سلطة تخطر على البال، بأن تغنّيها بشعارات تلهم واقعًا وليدًا كلّ لحظة.
الثورة هي مدرسة الخيال بحق. فيها نكتشف ونتعلّم، بالإحساس والحدس، بالقفز نحو ما لا نعرفه، وبالانطلاق من التحرر مما نعرفه. الثورة هي عكس الحنين.
ولكن، ماذا نفعل إن باتت بعيدة وقريبة في آن واحد، بعيدة وقريبة في الزمان والمكان؟
لم أعرف النوم كثيرًا عندما باتت تظاهرات لبنان تتبلور كثورة عارمة. تابعتها وهي تجذبنا لشاشات حواسيبنا وجوّالاتنا كالمغناطيس، وتسكننا كالشبح في مدننا الصامتة قسريًّا. تجوّلت ما بين الرغبة في عدم الوقوف بعيدةً من حراك أشعر بأنه يمسّني من دون أن أعرف بالضبط إن كان يحدث ذلك بمنطق عروبي أو إنساني أو ببساطة حميمي لما أصبحه لبنان من بيت ثانٍ نتقابل ونتحدّث ونحبّ فيه بحرية. تجوّلت بين ذلك الشعور والشعور بالاحتباس داخل جسد لا يستطيع أن ينضمّ لأجساد أخرى في ثورة تعتدي على واقع بات كاليقين السائد الخانق الذي لا يتوقف عند الكساد ولكنه يبتلع منّا أحبّاءنا كل يوم. هل تعرفون ذلك الشعور باحتفال صاخب بأغانٍ تحبّونها حين تسمعون طبقة خافتة منها لوجود نافذة مغلقة تحجب الصوت بينكم وبينها؟ هل تخيّلتُم الصراع ما بين الرغبة في أن يأتي الحفل عندكم أو أن تذهبوا أنتم إليه؟ أو، ببساطة، أن تسقط النافذة ويجري التحام المكانَيْن؟ الثورة تحرّك الخيال.
كنتُ قد تحايلتُ على الشعور باستحالة الثورة في مصر اليوم عن طريق مقاومة هيمنة يناير على خيالنا بعظمة مشهديّتها وعمق معانيها. هل يمكن أن نجسّد الثورة في حياتنا اليومية دون مشهديّتها المذهلة بالتقرّب الحميمي من عمقها المحرّر؟ يتطلّب ذلك قدرًا كبيرًا من ضبط النفس. وبينما يساعد ذلك على التعايش مع الأزمة، يقابله الكثير من الفشل. ثم جاء تشرين الأول ليربك المحاولة. فهل نقاوم عمق الثورة المربك والمحرِّك للإحساس والخيال براديكاليتها؟ لا أعتقد أنّ هناك مخرجًا. لا مقاومة ولا حنين. فقط استعادة سؤال طُبع على جدران الميدان أينما وجدت: فاكر بكره اللي لسه مجاش؟