عاجَل إعلام السلطة، قبل المعارضين، إلى رسم خريطة المجلس النيابي الجديد وفيها مجموعة نوّاب تحت عنوان «نوّاب الثورة»، «مجتمع مدني»، «نوّاب تغييريّون».
ثم عاجَل إعلام السلطة، قبل المعارضين، إلى استضافة هؤلاء على شاشاته، وحصر النقاش والمُساءلة بنقطتين دون سواهما: هل تجدّدون التصويت لنبيه بري؟ هل أنتم ضدّ سلاح حزب الله؟
ثمّ عاجَل إعلام السلطة، قبل المعارضين، إلى الحسم بأنّ «نوّاب التغيير» مع «سياديّي» المجلس ضدّ مُمانعيه، فيما نشر إعلام الممانعة رسماً يُظهر أنّ معظم «نوّاب التغيير» مع ممانعي المجلس ضدّ «السياديّين».
إعلامٌ آخر اختار اسم «نوّاب 17 تشرين». هكذا، يُقَزّم النظام حالة شعبية ثورية تمكّنت من الخروج عن حدود الاعتراض التي حدّدها هو، إلى حالة برلمانية إصلاحية تلعب داخل حدود النظام.
هي دوّامة قديمة جديدة يريد أن يخرج منها إعلام السلطة منتصراً، فتنتصر السلطة، عبر تحديدها سقف نقاش المجلس النيابي الجديد عموماً، و«نوّاب التغيير» خصوصاً.
نقدي هو التالي:
- الإشكاليات التي يطرحها الإعلام مغلوطة.
- الإصرار على إبراز «نوّاب التغيير» إنّما هدفه تفريغ خطابهم السياسي من معناه، واستبداله بخطابٍ مُهادن، لا يتطرّق إلى جذور النظام.
مثالٌ يجمع هاتَين النقطَتين:
هلّل إعلام السلطة لوجود ثمانيّة نوّاب إناث، ثمّ كان سؤاله الأوّل لهم: ما موقفكنّ من سلاح حزب الله؟
لم يسأل عن خلفيتهنّ النظرية في نقد أركان ذكورية النظام، ولا عن مشاريعهنّ العملية في خفض العنف الممنهج ضدّ نساء المجتمع، ولا عن موقفهنّ من إمكانية إعطاء الأم الجنسية لأبنائها، ولا عن كذا وكذا…
ولا أي شيء. لكنّه هلّل لهؤلاء النساء، وهلّل أكثر للتغييريّات بينهنّ. عجيب…
في المرحلة المقبلة، لا «نوّاب تغيير» في المجلس. بل هناك ببساطة القسمة التالية: عناوين فارغة تُحَيّد نقاش حلّ الأزمة، مقابل مشاريع عملية تخفّف من وطأة الأزمة.
هناك القسمة التالية: نوّاب يُعادون المجتمع، مناصريهم ضمناً، ويُدافعون عن مصلحة طبقتهم الحاكمة في وجهنا، مقابل نوّاب يناصرون المصلحة الطبقية لقاعدة المجتمع.
بمزيد من التفصيل، هناك:
من الجهة الأولى، لدينا نوّابٌ رجعيّون أو مُحافِظون أو نيوليبراليّون في السياسة، يُهادنون المصارف في الاقتصاد ويُقارعون طواحين الهواء في السياسة، على حساب تمييع مسؤوليات الانهيار والتوزيع العادل للخسائر.
كحلٍّ للأزمة، يقترح هؤلاء النواب اليوم بيع أصول الدولة، عبر «الصندوق السيادي». كذا هو مشروع القوّات «التغييرية»، ومشروع الكتائب «المُعتدلة»، ومشروع التيار «الإصلاحي». وللمفاجأة، كذا هو موقف عدد ممّن سمّاهم الإعلام «نوّاب التغيير»!
من الجهة الثانية، لدينا نوّابٌ (نأمل منهم أن) يحمّلون الطبقة الحاكمة كلفة الانهيار، وهذا العنوان يجمع اليوم كل المعارك. هم نوّاب سيختارون بنفسهم ترتيب أولويات المعركة.
معركة تظهر الفارق الجوهري بين سلاح حزب الله وسلاح المقاومة.
معركة في الاقتصاد تنهي خطاب «ضدّ الفساد»، وتذهب إلى تحديد موقف الدولة ومسؤولياتها تجاه طبقات المجتمع، وتغيير طبيعة اقتصاد البلد المولّدة للأزمات.
معركة في السياسة تناقش نظام التمثيل وشكل الحكم والعقد الاجتماعي المُهترئ وضرورة تبديله.
معركة الأحوال الشخصية.
معركة تحدّد أعداء المرحلة: المصرفيون والعقاريون والكارتيلات والميليشيات والدولة الطائفية وأجهزتها…
إلى هذين الاتّجاهَين، تُضاف مسألة «التقاطع والتناقض»، فتُمحى بضربة واحدة كل نظرية «نوّاب التغيير». قد يحدث أن يتقاطع بعض «نواب التغيير» مع نواب السلطة، سلباً أو إيجاباً. وقد يحدث أن يتناقض «نوّاب التغيير» في ما بينهم:
- هل وضّاح الصادق الذي ينبذ الزواج المدني، والذي أتى بقوّة المال نائب تغييري؟ ماذا يجمعه بعلماني أتى من ساحات الانتفاضة مثل فراس حمدان؟
- البعض اتّهم ياسين ياسين بأنّه «إسلامي»، لكنّه تبنّى خطاب «17 تشرين» منذ أعوام. حينها، كانت النائبة المُتحرّرة العلمانية سينتيا زرازير تدعو لإبادة الشعب السوري. فمن يكون التغييريّ بينهم؟ هنا، المُحافظ أكثر ثوريّةً من المُتحرّر.
- يُجاهر حزب الكتائب بتأييده بيع أملاك الدولة لسدّ خسائر القطاع المصرفي، لكنّه جاهر أيضاً بمقاطعته المسبقة لما أسماه «حكومات المحاصصة»، وهو موقف يتماهى مع موقف التغييريّين. فهل تسقط صفة التغيير عنهم إذا خاضوا المعركة الحكومية إلى جانب حزبٍ يطرح موقفاً اقتصادياً مضادّاً لمصلحة المجتمع؟
- بالمقابل، حزب الله، ركن النظام، تحفّظ على بيع أملاك الدولة. وهذا هو موقف معظم «النوّاب التغييريّين». فهل تَقاطعهم مع حزب الله على هذه النقطة بالتحديد، يُسقط عنهم صفة التغيير، وهم يعرفون أن حزب الله هو هو النظام الذي يريدون أن يغيّروه؟
- بمحطّاتٍ أخرى، أثبت نوّاب السلطة (على عللهم) جدّيةً في العمل التشريعي تجاوزت جدّية بولا يعقوبيان مثلاً، النائبة «التغييريّة». فهل تكون السلطة هنا هي التغييريّة؟
كل هذه النقاط هي مجرّد أمثلة تقضي على معايير الإعلام ومعايير السلطة لانتقاء «التغييريّين»، وتقضي على نظريّة «نوّاب تغيير» داخل المجلس، وتُدلّل على ضرورة تخطّي هذه المصطلحات والبحث عن مفاهيم تساعد في فهم تعقيدات الانهيار وتعقيدات المجلس النيابي الجديد.
أمام كل ذلك، تبدو لفظة «نوّاب التغيير» سخيفة للغاية، وتخدم السلطة أكثر ممّا تخدم المعارضة. حتّى أنّ قسمة «سلطة/ معارضة» صارت بدورها أعجز من مواكبة وتوصيف وتفكيك الواقع السياسي القائم.
«نوّاب التغيير»، بالمنطق الوحيد الذي تبدو فيه كلمة «تغيير» ذات معنى، هم النوّاب الذين سينجحون بفرض معايير تقدّمية على العمل السياسي، وفرضها على الإعلام المُهيمن والبديل، وفرضها داخل المجلس وخلق المساحة الكافية لنقاشها خارج المجلس، بين الناس.
«نوّاب التغيير» هم النواب الذين نأمل منهم أن يفتحوا مدخلاً جديداً للعمل السياسي داخل المجلس، مع إدراكنا المطلق بأنّ هذا المدخل غير كافٍ لتغيير النظام، وأن التغيير الفعلي في مكانٍ آخر. فلنذهب إليه.