يوميات في زمن الانهيار
سامر فرنجية

لحظة الانتماء إلى الفقدان

7 أيلول 2020

حاولتُ بشدّة على مدار السنوات أن أقاوم استعمال كلمة لبنان في الكتابة، لنفوري منها وممّا تحمله من ترهات ثقافية وادّعاءات وطنية. استبدلتُها بعبارات مختلفة، كـ«بقعة من الأرض» أو «هذه البلاد» أو «أرض الخراب»، عبارات غير محدّدة تلتقط عدم انتمائي لمجتمع القسوة والتفاهة الذي كنت أكتب عنه ومنه. فالكتابة كانت نوعاً من القتل الرمزي، أكتب عن بلد، لا اسم له ولا تاريخ، مجرّد بقعة من الأرض محكومة من تفاهة الشر، تدرّبتُ منذ صغري على كرهها. لم يكن هذا النفور شوقاً قوميّاً إلى كيان أكبر أو حلماً طائفياً لولاءاتٍ أضيق، بل كرهٌ عبثيّ، يجد بالوحدة والعزلة ملاذه الوحيد، شرطه الوحيد للبقاء أن يكون من دون ادّعاءات جماعيّة.

لم يكن نفوري موجَّهاً تجاه الكتّاب «الوطنيّين»، فلم ألتقِ بهؤلاء وكتاباتهم السخيفة. كأيّ كاره، كان عدائي الأساسيّ موجَّهاً تجاه أولئك الكتّاب الذين يشاركونني المسافة النقديّة نفسها من هذه البلاد، ولكنّهم انتهوا يدافعون عن انتمائهم لهذا البلد «رغم كلّ شيء». كانوا بأكثريّتهم من قدامى اليسار الذين تدرّبوا على نبذ هذه البلاد، ولكنّهم عادوا إليها «رغم كلّ شيء»، لكونهم وجدوا فيها شيئاً ما يستحقّ الانتماء. لم تكن هذه العودة نوعًا من «الوطنية الرثّة»، بل أقرب إلى عودة الخوارج إلى دفء مجتمع، مهما كان يعاني من عيوب، ما زال «مجتمعهم». كانت عودتهم «رغم كلّ شيء» تكدّس كلّ المآسي التي عاشوها، من الحروب والتهجير والقتل، ولكنّها لا تنفي إحساسهم الدفين بالانتماء، مهما هجروا هذا البلد.

كرهتُهم. وكرهتُ «رشدهم» الذي لم أكن أفهمه إلّا كتخاذل أو تواطؤ مع مجتمع القسوة والتفاهة، وكتاباتهم «الساذجة» عن تعلّقهم المستحيل بهذا البلد، لبنان. كرهتُ «حنينهم» إلى مرحلة ذهبية، ولم أفهمه إلّا كمحاولة للسيطرة على فعل الكتابة، من خلال تقويض النقد بحذر من عاش دمار مجتمعه. كرهتهم لأنّه لم يبقَ إلّا الكره كموقع صافٍ لتحمّل العيش ببلاد الخراب هذه، كره استبدل تعلّقهم المستحيل بلامبالاة الكاره: هنا أو هناك، لم تعد تفرق معي، فلا وجود للهجرة إلّا لمن ينتمي لمكان أصلًا. أمّا لمن لا ينتمي إلّا لنفسه، فالعزلة هي حالته الوحيدة، في شوارع بيروت أو برلين.

جاءت الثورة، ومعها المناسبة لتفريغ هذا الكره بشكل قطيعة مع النظام، ولكن «معهم» أيضًا وربّما أصلًا. كانت الثورة قطيعة مع النظام ولكنّها، على الأقلّ بالنسبة لي، قطيعة مع هذا المجتمع وكتّابه. كانت لحظة إعلان لبنان أرض خراب، لا تسودها إلّا العنصرية والطائفية والاستغلال وتفاهة القسوة. أيّ محاولة لإصلاح هذا المجتمع هي تخاذل وتواطؤ. فالإصلاح يفترض الانتماء، وأنا لا أنتمي لهنا. لا أنتمي لأيّ مكان. لم أكن أريد من الثورة إلا القطيعة، قطيعة بدون أي مستقبل، قطيعة عليها أنّ تدوم ريثما تقضي على أي خرافة انتماء، قطيعة هدفها أن تفضح تلك العودة إلى الوطن لما هي عليه، تخاذل وتواطؤ.

لكنّ الثورة دامت، والكره لم يعد كافياً لحملها. مع الوقت، بدأ إحساس غريب بالبروز، إحساس بالانتماء للحظة، غالبًا ما تكون لحظة الغاز المسيل للدموع والعنف الجماعي في الساحات. أو إحساس بالانتماء لأمتار قصيرة من العاصمة، عشنا فيها تجارب كمجموعة من الأفراد، وبات لهذه الأحياء معنًى جديد بالنسبة لنا. لم أتصالح مع لبنان، ولكنّ نفوري من استعمال هذه الكلمة بات يضعف مع الوقت، وبدأت أستعملها مقرونةً بكلمات أخرى تحدّد معناها: «الثورة اللبنانية»، «الانتفاضة اللبنانية»... صار انتمائي هو لهذا الحدث الذي حصل في لبنان، ومن خلاله لجماعة عاشته معي. كانت بدون شكّ أقلّية، ولكنّها أقلّية وُجِدت في هذا المكان والزمان. لم يكن هذا المجتمع خالياً من المشاكل، ولكن بدأت أفهم حدّة غضبي عليه. فهذه المشاكل «مشاكلنا»، تعنينا لأنّها تصيبنا، نحن، جماعة «الثورة اللبنانية». فالنفور أيضًا نوع من الانتماء، مهما كرهنا الشيء الذي ننفر منه، أو لأنّها نكرهه.

طالت الثورة، وبدأت تتراكم معها النكسات والأزمات. لكنّها لم تقضِ على هذا الإحساس الغريب الذي نشأ معها. فكانت المصائب تصيبنا كجماعة، تعزّز انتماءنا لها وتقدّم لها أساطيرها المؤسّسة. بتنا جماعة محجورة ومفلسة ومنكوبة، ولكنّنا ما زلنا جماعة، وما زالت الشوارع الخالية شوارعنا، تشهد بفراغها لوجودنا فيها ذات يوم. أصبح هناك مجتمع صغير أنتمي إليه، ومع كامل احتقاري لرموزه، ما زال مجتمعي أو عصابتي. ثمّ جاء انفجار المرفأ، ليقضي على هذه الجماعة، ويفجّر روابطها ويدمّر شوارعها، ويعيدنا من «نا» الثورة إلى عزلة «الأنا» الباحث عن مستقبل له في الهجرة أو العمل أو الكتابة... تحوّلنا من جماعة الثورة إلى مجموعة ترثي وتودّع نفسها، مدركة أنّ القنبلة التي ألقيت عليها قضت على كل شيء. بأقلّ من سنة، تعلّمنا الانتماء لشيء لم يعد.

لكن «رغم كل شيء»، لم نعُد إلى ما كنّا عليه. لم أعُد إلى هذا الإحساس بلامبالاة الكاره، ولن أذهب إلى حنين الأجيال السابقة أيضًا. ما زالت هناك رواسب لهذا الشعور بالانتماء لشيء كان، ربّما تفجّر وقُمِع ودُمِّر، ولكنّه ما زال هناك، في علاقات شخصية، في ذكريات جماعية، في شعار ما زال على زاوية شارع. ليس حنيناً إلى ماضٍ ذهبيّ، فلحظة تعرُّفِنا إلى جماعتنا لم تدُم طويلًا لكي تصبح ماضياً. ما بقي من هذه التجربة هو رغبة كنتُ قد قمعتُها بالماضي، ولكنّ الثورة فضحتني، رغبة بالانتماء لمكان وزمان، رغبة بالخروج من حالة الانسلاخ التي تعوّدت عليها وبدأت أتلذّذ بها. الثورة فضحتني، ولم ينجح الانفجار بمحو هذا الاعتراف.

في شوارع بيروت المدمّرة، فقدتُ شيئاً من كرهي، وتعرّفتُ إلى شعور جديد، شعور الفقدان. سأعود إلى عزلتي، ولكنّها عزلة جديدة، عزلة من فقدَ شيئاً لم يكن يدرك أنّه يتشوّق إليه، شيئاً يجعل الحياة أقلّ قسوة بعض الشيء في هذا المجتمع. لن يقنعني هذا الفقدان باستعمال كلمة لبنان، ولكنّني بتُّ أدرك معنى أن أفقد بلدي.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
فيدان والشرع عن قسد: لا مكان للسلاح خارج الدولة
تخطيط قيمة حياة فتاة عشرينيّة مقيمة في بدارو
وزير الدفاع الإسرائيلي يزور جنود الاحتلال في جنوب لبنان
وليد جنبلاط في سوريا
جيش الاحتلال يحاصر مستشفى كمال عدوان ويهدّد بإخلائه
الاحتلال يجرف بساتين الليمون في الناقورة