رسالة سلميّة ما بعد عنف الشرطة
بعثت رئيسة جامعة كولومبيا نعمت مينوش شفيق رسالة إلى جمهور جامعتها، تعيد فيها رواية ما وصفته بـ«من أصعب أسبوعين في تاريخ كولومبيا». بكلامها النظيف والموزون ومشاعرها المدروسة، والتي تؤكّد انتماءها إلى هذه الطبقة من الخبراء الموكلين إدارة المؤسسات الدولية والجامعات الخاصة والإدارات العامة، حاولت شفيق امتصاص الغضب الناتج عن قرارها إرسال الشرطة ضدّ الطلبة.
لكنّ الرسالة، مهما بدت سلمية ظاهرياً، تبقى مرهونة بفعل العنف الذي سبقها. العنف هو ما تحاول الرسالة تبريره. وهو ما سمح لرئيسة الجامعة بأن تبعث بهذه الرسالة، السلمية بانتصارها. العنف هو مستقبل من يخالف هذه الرسالة أيضًا. العنف يتسرّب من كلمات رسالة المصالحة.
العنف هو الشرط الأساسي للخطاب الليبرالي عن الاختلاف والتوافق واحترام الرأي الآخر. هو من يؤطّر حدود هذا الخطاب ومن يحق له الانتماء إليه. هو يرسم حدود الجماعة ومَن خارجها. هو يؤمّن العقاب لمن يرفض الاختلاف ويصرّ على الانقسام.
في أقلّ من خمس دقائق، لخّصت شفيق الموقف الليبرالي من الإبادة، خمس دقائق كانت كافية لتعفّ رائحة السلطة وعفن كلماتها، خمس دقائق لنتعلّم لياقة الإبادة.
جماعة اللا-سياسة
شفيق، كممثلة لليبرالية السلطة، وجّهت رسالة لـ«جماعتها» (community)، هذا المصطلح الأحبّ على قلب الليبراليين. الجماعة لا تعترف بالانقسامات، هي واحدة، تضّم مموّلي الجامعة وطلابها، إدارييها وأساتذتها، استثماراتها بالإبادة وطلابها المعترضين على هذه الاستثمارات. في هذه الجماعة، ما من انقسامات، بل مجرّد اختلافات بالرأي. هناك من يستفيد من الإبادة وهناك من يعترض على الإبادة، رأيان مختلفان، الرأي والرأي المعارض، هذه دلالة الجماعة الديموقراطية.
عانَتْ جماعة كولومبيا في الأسابيع الماضية. دخلها الانقسام والاضطراب، وبعض أبنائها لم يشعروا بالأمان المفترض أن يكونوا قد دفعوا ثمنه أقساطاً خيالية. دخل الانقسام مِن باب ما سمّته شفيق بـ«الأزمة الإنسانية في غزّة». ليست حرباً أو إبادة، أو حتى صراعاً، بل مجرّد أزمة. وشفيق، خريجة المؤسسات الدوليّة، تدرك تمامًا قدرة «الأزمة» على سحب التسييس من أي شيء، حتى الإبادة.
هناك إذَنْ أزمة إنسانية في غزّة، وقد اضطرب البعض جرّاءها، فسقط ضحيةً لها طلبةُ كولومبيا الذين اضطروا إلى العودة للدراسة عن بعد. ومسؤولية شفيق هي إعادة الألفة إلى داخل الجماعة، بعدما أخرجَ عنفُ الشرطة الطلابَ منها.
حدود المقبول والممنوع في السياسة
يجب أن تعود الجماعة إلى طبيعتها، هذا هدف الرسالة التي تلتْ عنف الشرطة. وهذا دور الليبرالية بعد العسكر. فالسياسة الوحيدة المقبولة ضمن الجماعة هي سياسة «الحوار»، و«التجمعات السلمية»، و«العروض الصادقة»، والتفاوض. السياسة المرفوضة هي العنف، والتي حصرتها شفيق باحتلال بعض الطلبة لأحد مباني الجامعة، احتلال كان «محزناً» و«مقلقاً». العنف لليبراليّي السلطة يقاس بالمشاعر. هناك احتلال سلمي أقلقَ شفيق، وهناك شرطة اقتحمت وأوقفت ومنعت، كلاهما عنف، لا فرق. أليس هذا ما يحدث في فلسطين؟ فهناك إبادة فعلية وهناك شعار «من النهر إلى البحر» الذي قرّر القيّمون على الوضع اعتباره بمثابة إبادة قيد التكوين. الليبرالي يحتاج إلى الرأي والرأي الآخر لكي يبرّر موقعه، حتى ولو جاء على حساب مساواة إبادةٍ بشعار.
لعلّ أبرز دليل على صحة هذا الكلام مسيرةُ شفيق الشخصية والمهنية التي أقحمتها بالرسالة. فهي كبرت في الشرق الأوسط، في عائلة، وإن كانت مسلمة، كان لديها العديد من الأصدقاء المسيحيين واليهود. هي الدليل الحيّ بأن الحوار وتقبُّل الآخر، وإن لم يُنتِجا حلًا، فإنّهما يشكلان الضمانة لتسلّق المراتب، بالمؤسسات الدوليّة ومن ثم الجامعة. فكل شيء، في آخر المطاف، هو مسألة رأي ورأي آخر، حتى الإبادة. وافقوا على هذا، حتى يمكنكم أن تعودوا إلى حضن الجماعة.
الجامعة مصنع آداب قادة المستقبل
بعد قمع الحركة الطلابية، حان وقت المصالحة التأديبية، ليظهر الدور الفعلي لجامعات النخبة. فباتت هذه المؤسسات تؤسس لآداب قادة المستقبل، تعلمهم كيف يصبحون كشفيق، أفراداً قادرين على تحويل كل شيء إلى رأي، حتى الإبادة، بغية التقدّم بالحياة. فتحويل مطلب العدالة إلى مجرّد رأي يواجهه رأي آخر، يحتاج إلى الكثير من التأديب: تأديب اللغة، تأديب الحركة، تأديب المشاعر… هناك لياقة مطلوبة ممّن سيحكم العالم، وعلى الجامعة فرضها.
أبدت شفيق إعجابها بالطلبة الذين اعترفوا بأنّ للطرف الآخر وجهة نظر. «نريد أكثر من هؤلاء في كولومبيا»، خلصت شفيق بلغتها الهادئة والخشبية، لغة تمّ تأديبها منذ سنوات. في وجه شفيق، لا يمكن إلّا تكرار ما قالته تلميذة في جامعة روتجرز لمجلس إدارتها: كسم قيمكم.
ما جرى بالأشهر الأخيرة، من قمع للطلاب واستنفار من الطبقة السياسية وتهديد من أرباب العمل، يدلّ على القلق من أن تكون الجامعات قد فشلت في لعب دورها المفترض، وهو تحضير وتأديب الجيل القادم من قادة العالم. فأُضيف سؤال جديد لامتحان التخرّج لهذه السنة، سؤال وحيد: هل يمكن أن تنظر إلى الإبادة ولا ترى فيها إلّا رأيًا آخر؟ هل يمكن أن تنظر إلى جثّة طفل وقائد عسكري ولا ترى إلّا رأياً ورأياً آخر؟ هل يمكن أن تنظر إلى الضحية وإلى الجلاد، وتوازي بين مشاعرهما؟
أنسوا باقي المواد، هذا هو السؤال الذي سيحدّد مَن يمكنه أن يحكم العالم في المستقبل.