لم يكن مفاجئاً أن ينتظر كثير من اللبنانيين خطاب الأمين العام لحزب الله، خصوصاً وأنّ الثنائي الشيعي مثّل خلال مفاوضات تشكيل حكومة مصطفى أديب القوّة السياسيّة الوحيدة التي تجرّأت أو تمكّنت من ممارسة حق الفيتو في وجه الرئيس المكلّف، وهو ما أدّى إلى اعتذاره. من هنا، يمكن القول إنّ مواقف الأمين العام للحزب باتت تستحق إعطاءها الاهتمام الكافي في هذه اللحظة بالذات، كونها تؤشّر حكماً إلى مستقبل الوضع الحكومي أولاً، ومستقبل المبادرة الفرنسيّة والمعالجات الماليّة المرتقبة ثانياً.
بدا واضحاً في خطاب نصر الله أنّه مهتمّ بإعطاء التفسيرات الكافية لتصدّره معركة الإصرار على تشكيل حكومة تملك أوسع تمثيل سياسيّ ممكن، ومن ضمنه تمثيل الحزب الذي يهمّه الحصول على حصّة في الحكومة لحماية اللبنانيين من أمور يخشاها على حدّ قول نصر الله: كتوقيع الحكومة على بياض على شروط صندوق النقد، والتي قد تشمل مسائل تهدّد أمن اللبنانيين الاجتماعي.
في الواقع، يمكن القول إنّ لبنان تعنّت فعلاً في مفاوضاته مع الصندوق، إلى الحدّ الذي دفع وفد الصندوق إلى فرملة المفاوضات بانتظار حصول تغييرٍ ما في أولويات السلطة في لبنان. لكنّ التعنّت هذا من طرف المنظومة الحاكمة في البلاد، ومن ضمنها حزب الله، لم يأتِ على خلفيّة رفض الشروط المجحفة بحق اللبنانيين، بل على العكس، جاء على خلفيّة المناورات التي حصلت لحماية شبكة من المصالح الراسخة في النظام السياسي اللبناني، على حساب الشعب اللبناني نفسه.
على هذا النحو، أطاح الثنائي الشيعي بالتدقيق الجنائي واستبدله بتدقيق شكلي لا يكشف مآلات التحويلات المشبوهة التي حصلت في مصرف لبنان. وجارى حزب الله حليفه نبيه بري في مسألة سحب مسودة مشروع قانون الكابيتال كونترول عن طاولة مجلس الوزراء، ما أدّى إلى تهريب المليارات من احتياطيّات المصرف المركزي بغياب هذا القانون. وفي مجلس الوزراء أيضاً، كان الحزب من جملة الذين ساروا مع رئيسَي الحكومة والجمهوريّة في التسوية التي أفضت إلى إعادة ضمّ معمل سلعاتا المشبوه إلى خطة الكهرباء، وكان وزراء الحزب من الذين صمتوا على تطيير التشكيلات القضائيّة لحماية نفوذ العهد في السلطة القضائيّة.
أدّت كل تلك التطوّرات إلى عرقلة مسار المفاوضات مع الصندوق وأعطت أسوأ الانطباعات لدى المانحين الدوليين، فيما كان الحزب و/أو حلفاؤه أبرز أبطال هذه الملفّات. أمّا أغرب ما في الموضوع، فهو اعتبار نصر الله أنّ وجود حزبه في الحكومة سيمنع زيادة الضريبة على القيمة المضافة كجزء من المعالجات المقترحة، في الوقت الذي تقف فيه البلاد اليوم على مشارف رفع الدعم عن السلع الأساسيّة ابتداءً من المحروقات، مع كلّ ما يعنيه ذلك من دفع المجتمع اللبناني نحو أتون التضخّم الجنوني وتضاعف أسعار هذه السلع. علماً أن رفع الدعم يتّصل بشكل وثيق بمستويات الاحتياطي المتبقية وطريقة إدارتها، بغياب الكابيتال كونترول الكفيل بالحفاظ عليها والتدقيق الجنائي الكفيل بكشف طريقة استعمالها.
ببساطة، لم يحمل تمسّك حزب الله بأوسع تمثيل سياسي في الحكومة، بما فيه تمثيله وتمثيل حلفائه، سوى الرغبة بإعادة إنتاج التركيبة السياسيّة نفسها التي تضمن نفوذه الاستراتيجي في البلاد، بمعزل عن حجم الخراب الاجتماعي والاقتصادي الذي تسبّبه اليوم إعادة إنتاج هذه المنظومة. حتّى دعوته رؤساء الحكومات السابقين للمشاركة في السلطة من جديد وتحمّل المسؤوليّة، ليس سوى رغبة في إعطاء هذه التركيبة الغطاء الإقليمي والدولي الذي يريد.
أما في كل ما يخص الملفات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، فلم يسجّل حزب الله منذ حصول الانهيار المالي معركةً واحدة خاضها ضدّ شبكات النفوذ والمصالح التي تساهم في تعميق الأزمة الاقتصاديّة اليوم، لا بل لعب دوره الطبيعي كأحد المشاركين التاريخيين في الحكم الذين يقاومون اليوم أي مساس بالتوزنات القائمة في النظامين السياسي والاقتصادي، والذين يرفضون التنازل عن أيٍّ من المصالح القائمة في هذين النظامين.
لهذه الأسباب، لم يعد بإمكان الحزب أن يستثني نفسه من تهمة المشاركة في جريمة تجويع اللبنانيين، مهما حاول الإثبات أنّه مستثنى من منظومة الفساد ورموزها.