انهيار مالي، أزمة اجتماعية، انتشار وباء، تدمير العاصمة، إعلان حالة الطوارئ... وبعد خطاب نصرالله، بات من الممكن التنبّؤ بالمرحلة القادمة من هذا المسلسل الذي نعيشه منذ أشهر، وهي الحرب من أجل منع الحرب… ومنع الشتائم.
في الذكرى السنوية الرابعة عشرة للانتصار، خرج نصرالله على اللبنانيين القابعين تحت الركام ليعلن لهم أنّ بلادهم خرجت نهائيًا من التاريخ لتصبح مجرّد صنيعة لخياله. من موقع المحاصَر، داخليًا وخارجيًا، لم يجد نصر الله إلا الهروب إلى الأمام والتصعيد، في خطاب يمكن تلخيصه بابتزاز دموي، وهو «سيطرة حزب الله أو الخراب». المسلسل لم ينتهِ بعد. ما زال هناك خراب إضافي يمكن أن ينهال علينا، خراب عنوانه «غضب» نصر الله.
بدأ نصر الله خطابه التأديبي باستذكار «أيّام اللولو»، وأبطاله من عماد مغنية إلى إميل لحود. أيّام ذاك الانتصار الذي ما زلنا نعيش تحت مفاعيله المجيدة، وإن كنّا نحتاج إلى بعض التأديب لكي نستوعب النعمة التي نعيش بها. في أوّل أربعين دقيقة من الخطاب، لم يأتِ نصر الله على ذكر مجزرة المرفأ أو أيّ شيء آخر يمكن أن يعكّر هذا الانتصار. فالنصف الأوّل من الخطاب هو عالمه الخاص، عالم الانتصارات، عالم قاسم سليماني والزيارات الليلة إلى مراكز القيادة، عالم ما قبل الثورة السورية، عالم صوره المرفوعة من الضاحية إلى فنزويلا.
لا يريد نصر الله أن يغادر هذا العالم. لا وجود له خارج هذا العالم. لا يريد لأي حقيقة أن تعكّر تلك الذكريات. فبعد استذكار الانتصار، بدأ مسلسل دحض أي تطوّر قد يشكّك بمفاعيله:
إقرار التطبيع بين الإمارات وإسرائيل انتصار أخلاقي للمقاومة.
عدم الردّ على اعتداءات إسرائيل انتصار نفسيّ للمقاومة.
الوجود الأميركي في المنطقة انتصار استراتيجيّ للمقاومة.
أمّا البوارج الغربية والمحكمة الدولية والعقوبات الاقتصادية، فهو غير معنيّ بها. المقاومة انتصرت، وهي اليوم أقوى من أيّ وقت مضى. فليس لها حتى من مرفأ لكي تخسره بعد اليوم.
لكنّ نصر الله يعرف أنّ خطابه ليس عن الخارج، أو بكلام أدّق، ليس هدف الخطاب إلا منع ترجمة تلك التحوّلات داخليًا، أي منع ترجمة أي تحوّل في السياسة. فلا شيء تغيّر، وفق نصر الله، حتّى يقتضي بعض التعديلات في نهجه. وإذا كان الإنكار قد يفيد بما يخصّ الخارج، فإنّ الشعب وشتائمه في الداخل لا ينفع معه إلّا التهديد والتأديب. فلم يهضم نصر الله سقوط حكومته وانهيار حليفه المسيحي وصوره مشنوقًا في الساحات. بعد أربعين دقيقة من الانتصارات، بدأت التهديدات.
التهديد الأول للطبقة السياسيّة: المطالبة بالمشاركة بحكومة وحدة وطنيّة. فبعد تسمية سعد الحريري من أكثرية أبواق 8 آذار وتهديد وليد جنبلاط من قبل جريدة «الأخبار» بغية الضغط عليه، جاء نصر الله ليعرض حكومةً لا خيار لخصومه إلّا الدخول إليها أو الخروج من السياسة.
التهديد الثاني للثورة وشتائمها ومشانقها: عاد نصرالله إلى موّاله القديم عن السفارات والشتائم، لكن هذه المرة مع تهديد واضح بسياسة «الشارع في وجه الشارع»، مطالبًا جمهوره بالاحتفاظ بغضبهم الذي قد يحتاج إليه نصر الله يومًا ما. يأتي هذا التهديد مع إعلان حالة طوارئ التي ستنطلق من تهديد نصر الله لقمع الاحتجاجات.
التهديد الثالث موجّه للاعتراض المسيحي: أمام المطالب المتصاعدة لاستقالة الرئيس الصُّوَريّ، طرح نصر الله الخيار الآتي: إمّا أن يكون الإجماع المسيحيّ حول قياداتٍ كإميل لحود وميشال عون، وإمّا أن يصبح المسيحيّون مجرّد عملاء سفارات. فلنصر الله رئيسه المسيحيّ وصهره العنصري وعميله في الطوافة، ولن يقبل بأيّ اعتراض على خياراته التي عمل طويلًا لإرسائها.
كان الكلّ يعلم بوجود موادّ متفجّرة بالمرفأ، وبات الكلّ يعلم أنّ نصر الله قنبلة موقوتة، ليس لديه إلّا بضاعة مهترئة يقدّمها في السياسة وإلّا ينفجر فينا وبالبلاد. ابتزازه واضح: إمّا العودة إلى العام 2006 أو الخراب. لكن حتى نصرالله لم يعد مقتنعًا بكلامه. فبعد الإنكار والتهديد، جاءت الهلوسة على شكل موقف غريب من التحقيق المحلي. فنصر الله لم يعد يثق بالتحقيق لمشاركة عناصر من «الأف. بي. أي.» فيه لأنّ الـ«الأف. بي. أي.» ستعمل على تبرئة إسرائيل التي لن يتّهمها نصر الله كونه لا يدري. لكنّ نصر الله، في الوقت نفسه، مستعدّ لإعلان حرب شاملة انطلاقًا من هذا التحقيق الذي يقوم به عناصر من «الأف. بي. أي.» الذين سيبرّئون إسرائيل التي لن يتّهمها نصرالله لكونه لا يدري...
بعد الانهيار، جاءت الحرب، حرب هدفها الوحيد فرض الدمار علينا وكأنّه انتصار، وكأنّ نصرالله لم يقتنع بأنّ أربع عشرة سنة مضت على انتصاره الأخير، وحان الوقت لطيّ الصفحة.