في ذكرى شهداء القوّات اللبنانيّة، ذكّرنا سمير جعجع أنّ منطلقات اتّفاق معراب الأوليّة هي مصالحة وجدانيّة، تاريخيّة، أخلاقيّة. فالاتّفاق المذكور، كما أكّد جعجع، طوى صفحة صراع مجتمعيّ مديد، بدأ منذ تولّي العماد ميشال عون مقاليد الحكومة العسكريّة أواخر العام 1988 وطال بمآسيه وشظاياه وآثاره السلبيّة كلّ قرية وحيّ وبيت من بيوت مجتمعنا.
لم يكد يمضي أسبوع على كلمة جعجع حتّى بيّنت ليلة ميرنا الشالوحي قوّة العلاقة الوجدانيّة بين قواعد الحزبين وعمق المصالحة التاريخيّة- الأخلاقيّة بينها. فالاشتباك الليليّ تخلّله إطلاق نار من قبل مناصري التيّار، بحسب جعجع، ومحاولة اقتحام القوّاتيّين المقرّ العام للتيّار وكَيْل الشتائم لرئيس الجمهوريّة واستفزاز مناصريه كما ورد في بيان اللجنة المركزيّة للإعلام فيه. وقد تمّ تداول فيديو يُظهر مناصرين للتيّار، أحدهم بجعبة عسكريّة، يطلقون الهيلاهو بحقّ جعجع وهم يحرقون علم القوّات ويشتمون تلفزيون الـ«أم. تي. في.».
أتى اشتباك ميرنا الشالوحي بعد يومَيْن من اعتداء مناصري التيّار، المتجمهرين أمام مركزهم في الحدت بانتظار انتقالهم إلى مستديرة الصيّاد لمواجهة المتظاهرين، على سيّارة مناصر للقوّات ومحاولتهم ضربه عند مروره. وقد أشارت بعض المواقع الاعلاميّة إلى أن السائق قام بحركة استفزّت العونيّين قبل الانقضاض الشرس على سيّارته بالعصيّ واللكمات، بينما غفل موقع القوّات عن ذكر الاستفزاز، مشيراً إلى أن المناصر عنصر في الجيش اللبناني.
في ذكرى اغتيال بشير الجميّل الثامنة والثلاثين، سقطت المصالحة التاريخيّة. لم تكن إلّا هدنة. أعادت قواعد «القوّات» و«التيّار» تذكيرنا بمعارك الأخوة الأعداء الدامية لوراثة بشير. لم تُحسَم تلك المعارك حينها بين عون المخلّص وجعحع الناسك المقاتل. زُهِقَت أرواح ودُمِّرَت أرزاق. والطرفان اللذان يتغنّيان الآن بالتشبّث بالأرض والبقاء فيها وصونها من «المستأجر المسلم في الحدت» ينسون أنّ سعيهما وراء إعادة تقمّص زعامة الجميّل وتجربته كان سبب هجرة الآلاف من أراضيهم. حرقوا الأرض ولم يوحّدوا البندقية. لكنّ الجهد الذي ينصبّ على صناعة الذاكرة الجماعيّة للجماعات الأهليّة- الحزبيّة يكبت ذكريات الحروب الذاتيّة المدمّرة التي لا يمكن تأطيرها الملحميّ ضمن روايات المقاومة والدفاع عن النفس بوجه مشاريع الهيمنة الخارجيّة. فيصعب على من يدّعون تمثيل الجماعة وحماية وجودها الاعتراف بأنّهم هم أيضاً كانوا أساس تهديد استمراريّتها.
وكان الوزير السابق ملحم رياشي قد أراد على الأرجح جمع طرفَي النزاع الدموي على الإرث وإذابته عندما كتب في إحدى فقرات نشيد المصالحة، أوعى خيّك: فــوق التـخت صــورة/ صــورة بشــير صــورة بشــير وسمــير وعـــون.
لا جديد في الروايات الحزبيّة المتباينة التي تلقي اللوم في الإشكال على الطرف الآخر وتحمّله مسؤولية الاستفزاز الذي أدّى إلى التوتّر. تعيدنا تلك الروايات التي لا وظيفة لها إلّا تبرئة النفس وتجريم الآخر إلى نزاعات الذاكرة بين الجماعات الحزبيّة والأساطير المؤسسة للحوادث الأهليّة. لكنّ اللافت في تعليقات بعض الحزبييّن بعد أوّل إشكال جدّي بين الطرفين هو المحو المباشر لآثار المصالحة وعدم السعي إلى تطويقه. فتدهور خطاب التيّار الرسمي بلمح البصر إلى أدبيّات الحرب، ووصف موقع التيّار مناصري القوّات بالميليشيا وذكّر بيان لجنة الإعلام بـميليشيويّة سمير جعجع وغدره المعروف، مكرّراً مقولاتهم القديمة عن الشرعية والدولة مقابل ماضي جعجع الدموي.
حصل كلّ ذلك بعدما اختفت «أمّهات التباريس» وحلّت مكانهنّ استعراضات القوّات اللبنانيّة بقمصانها السود ورنجراتها العسكريّة بعدما زرعت الجميّزة بالأعلام الحزبيّة. فسعت إلى استنهاض عصبيّة مناصريها في المنطقة وتأكيد سيطرتها عليها بعدما نكبتها جريمة تفجير المرفأ. إلّا أنّ الأشرفية تغيّرت كثيراً منذ أن كانت يوماً بداية البشير. واستنهاض تلك الذاكرة الآن يستغلّ الذكرى لطمس التحوّلات التي جعلت الأشرفيّة من أكثر المناطق اختلاطاً في بيروت، ويسعى إلى إعادتها إلى السيطرة الحزبيّة المباشرة بحجّة نقائها الأهلي وتاريخ حروبها الذي مرّ على بداياته نصف قرن تقريباً. ومتى حوّلت الأعلام الحيّز العام إلى ملك حزبي خاص، يصعب استرداده. اسألوا سكّان راس بيروت الذين استفاقوا بعد 7 أيّار 2008 ليروا شوارعهم وقد تحوّلت غابات من الزوابع السوريّة القوميّة الاجتماعيّة.
الطروحات التي تهجس بخوف أقلّوي من التآكل التدريجي لسيادة الجماعة ومقوّمات وجودها- اللامركزيّة، اللامركزيّة الموسّعة، الفدراليّة- تقف عند حدود الإشكالات داخل الجماعة الواحدة وعصبيّات الأخوّة القاتلة. «أوعى خيّك» يحمل في داخله احتمال تحوّله إلى مشروع اقتتال مؤجّل بين أخوة حول حصر إرث لا بدّ منه. يشتدّ حيناً ويهدأ أحياناً، إلّا أنه بجميع الحالات يقوّض أسس الجمهوريّة.