إذا أراد المرء أن يفهم العقل المالي الذي يدير دولةً ما، فلا غنى عن العودة إلى الموازنة التي تحكم تلك الدولة. فهناك، يمكن فهم خطّة الجباية، والرهانات التي تضعها الحكومة لتحصيل إيراداتها. وبصورة أدقّ: الشرائح الاجتماعيّة التي ستتحمّل كلفة هذا العبء. وهناك أيضًا، يمكن فهم سقوف الإنفاق التي تضعها الدولة لكلّ وظيفة من وظائف الإدارة والمرافق العامّة. أن تفهم الموازنة، يعني أن تفهم الدور الاقتصادي للدولة، وآليّات إعادة التوزيع التي تشرف عليها.
في حالة لبنان المأزوم نقدياً ومالياً، تكتسب الموازنة أبعاداً أكثر أهميةً وخطورةً. الدولة التي كانت تستهدف إنفاق 17.1 مليار دولار في موازنة 2019، لم تتجاوز نفقاتها الملحوظة في موازنة العام الماضي الـ1.1 مليار. وهذا ما يعكس الامتناع عن إجراء أي تصحيح جدّي في أجور العاملين في القطاع العام. هنا، تصبح الموازنة الجديدة إحدى أدوات التصحيح المالي، التي تستهدف إعادة التوازن للماليّة العامّة، وتقدّم بذلك التعبير الأصدق والأكثر صراحة عن الفئات التي ستتحمّل وزر هذا التصحيح، أي كلفة النهوض من تحت ركام الأزمة.
ما يمكن استخلاصه من موازنة 2024، التي أعدّت وزارة الماليّة اولى مسوّداتها وشرعت الحكومة بمناقشتها، هو أنّها:
- أولًا، استكمال لمسار تحميل الفئات الأكثر هشاشة كلفة هذا التصحيح المالي، وخصوصًا في الجوانب المتعلّقة بالزيادات الضريبيّة. فطبيعة هذه الإجراءات الضريبيّة ذهبت باتجاه التركيز على الخطوات السهلة والبسيطة التي تحمّل جميع دافعي الضرائب- بمعزل عن مستوى دخلهم- عبئاً متساوياً لزيادة الإيرادات.
- ثانياً، تتمّة لمسار التأقلم مع الأزمة القائمة، بدل معالجتها، مع كل ما تحمله الأزمة من تبعات قاسية على محدودي الدخل. وهذا تحديداً ما يظهر في جوانب الموازنة التي تتّصل بمسألة الأزمة النقديّة، أي أزمة قيمة العملة المحليّة وشحّ العملة الصعبة. هنا، كان الحل تطبيع الواقع المأزوم، بدل وضع حلول تعالجه.
من سيدفع ثمن التصحيح المالي؟
السؤال البديهي الذي وقفت أمامه وزارة الماليّة، خلال إعداد موازنة 2024، كان التالي: كيف يمكن زيادة الإيرادات، بعد كل التناقص الذي طرأ عليها منذ العام 2019، بعد انخفاض سعر صرف الليرة المعتمدة للجباية؟
الطريق الأصعب، إنما الأكثر إنصافاً بالنسبة لمحدودي الدخل، كان التركيز على زيادة التحصيل الضريبي من الضرائب المباشرة، أي تلك التي تستهدف أرباح الشركات والرواتب والمداخيل. فهذه الضريبة، يمكن التحكّم بنسبتها بحسب دخل المكلّف، وهو ما يسمح بتحييد الفئات الهشّة عن عبء الزيادات الضريبيّة.
في المقابل، اختارت وزارة الماليّة الطريق الأسهل والأبسط، لكن الأقلّ عدالة، عبر التركيز على الضرائب غير المباشرة، التي تطال بسيفها الأكثر ثراءً والأكثر هشاشةً بنفس النسبة. والطريقة الأسهل لزيادة الضرائب غير المباشرة، هي بطبيعة الحال زيادة الضريبة على الاستهلاك.
فعلى سبيل المثال، شملت الموازنة:
- ضرائب إضافيّة تحت مسمّى «رسم استهلاك للحفاظ على البيئة»، حيث شمل هذا الرسم نحو 1,500 سلعة جديدة، فيما تراوحت قيمة هذا الرسم بين 1 و4 بالألف لكلّ سلعة. المشكلة الأساسيّة هنا، هي أن الموازنة لم توضح مدى ارتباط هذا الرسم بالمسائل البيئيّة التي جرى التحجج بها عند استحداث الرسم.
- زيادة نسبة الضريبة على القيمة المضافة، من 11% إلى 12%، مع تحصيل هذه الضريبة وفق سعر منصّة صيرفة، بحسب قرار مجلس الوزراء في أيّار الماضي. وبعد هذه الإجراءات، تراهن وزارة الماليّة على زيادة حاصلات الضريبة على القيمة المضافة بأكثر من 30 ضعفاً، مقارنة بتلك التي تم تحصيلها خلال العام 2021.
- استحداث رسوم جديدة مقابل إفادات ومعاملات وزارة التربية، بالإضافة إلى زيادات كبيرة في رسوم المعاملات العقاريّة في دوائر البلديّة.
كلّ ما سبق ليس سوى بضعة أمثلة على استسهال زيادة الرسوم والضرائب غير المباشرة، في حين أنّ الموازنة خلت تقريبًا من الإجراءات الجديّة التي تستهدف مكافحة التهرّب من ضريبة الدخل، أو زيادة المبالغ التي يتم تحصيلها من الضرائب على الأرباح والرواتب.
التأقلُم مع الأزمة
كما هو معلوم، مثّل انهيار سعر صرف العملة المحليّة أحد أبرز التحوّلات التي عمّقت التفاوتات الاجتماعيّة، بالنظر إلى اعتماد الغالبيّة الساحقة من الموظفين في القطاعين العام والخاص على رواتب مقوّمة بالليرة. ولهذا السبب، كان من المتوقّع أن تبادر وزارة الماليّة إلى التنسيق مع المصرف المركزي، لوضع سياسة نقديّة ذات مصداقيّة، قادرة على إعادة الاعتبار للعملة المحليّة، وتعزيز الاعتماد عليها في المدفوعات المحليّة.
لكن بدلاً من العمل على حلول للأزمة النقديّة، ذهبت الموازنة لتطبيع هذه الأزمة وتكريسها، من خلال دولرة جزء كبير من الرسوم والضرائب على نحوٍ إلزامي. وهذا ما يعني عملياً تعزيز الاستغناء عن العملة المحليّة كوسيط للتداول، مقابل رفع الطلب على الدولار لتسديد المدفوعات.
وشملت قائمة الرسوم والضرائب التي ينبغي تسديدها بالدولار من قبل المقيمين الذين يتقاضى معظمهم الرواتب والمداخيل بالليرة، رسوم مؤسسة كهرباء لبنان، ورسوم المغادرة عبر المطار والحدود البريّة، بالإضافة إلى الجمرك ورسوم الأمن العام، وجميع ضرائب الاستهلاك التي تم فرضها على السلع المستوردة. وبهذا الشكل، ستدفع الدولة المقيمين لطلب الدولار من السوق الموازية، أي زيادة الضغط على الليرة، من أجل تسديد هذه الضرائب والرسوم.
لا يقتصر تطبيع الأزمة على مسألة دولرة الرسوم والضرائب، بل يشمل أيضاً الاعتراف بالهيركات الذي تفرضه المصارف ومصرف لبنان على الودائع بالعملات الأجنبيّة، من خلال أسعار الصرف المعتمدة للسحوبات من هذه الودائع. وبدل أن تسعى الحكومة لتسريع عمليّة إعادة هيكلة المصارف، لتستعيد الودائع قيمتها الفعليّة، ذهبت الموازنة إلى تقييم أموال الودائع بـ40% من قيمتها الفعليّة، عند استعمالها لتسديد الرسوم والضرائب. وبهذا الشكل، وإذا تمّ إقرار الموازنة بهذه الصورة، سيكون لدينا- وللمرّة الأولى- صك قانوني يشرّع الاقتطاع من قيمة الودائع المصرفيّة.
في النتيجة، ما تعنيه هذه الموازنة هو الاتجاه لتحميل عموم المقيمين كلفة التصحيح المالي في الميزانيّة العامّة، بعدما تحمّلوا طوال السنوات الأربع الماضية كلفة الأزمة نفسها، وبعدما تحمّلوا قبل ذلك كلفة نموذج اقتصادي لم يعمل لمصلحتهم يوماً. وما تعنيه هذه الموازنة أيضاً هو أنّ من أعدّها يعلم أنّ البلاد لن تدخل قريباً في أي مسار جدّي لمعالجة الأزمتين المصرفيّة والنقديّة، وهو ما تترجمه قرارات تطبيع الدولرة والهيركات. وهذا ما يدل على أنّ جميع المقيمين سيتحمّلون تداعيات الأزمتين معاً، إلى جانب تحمّلهم وزر الإجراءات الضريبيّة الجديدة.