بعد سقوط حكومة الحريري مع تنامي الزخم الشعبي في انتفاضة 17 تشرين، توالت الأسماء المرشحة لرئاسة الحكومة بالسقوط، واحداً تلو الآخر، إلى أن تمّت تسمية البروفيسور حسان دياب رئيساً لحكومة اختصاصيين. لم نكن نعرف عنه كثيراً، والقليل المعلوم عنه يثير الاستغراب، إلّا أن الماكينة الإعلامية التي تبنّته، بثّت مانترا تلخَّص بـ«شكلو آدمي، اعطوه فرصة».
لم يكن دياب أول من ابتكر هوية «الآدمي» كالميزة الوحيدة المطلوبة من سياسي. فمرّت شخصيات عديدة على السلطة في لبنان، يتلخص إرثها بكلمة «آدمي». الكلمة اجتماعية للغاية، تذكرنا بأشخاص ميزاتهم الوحيدة ابتعادهم عن المشاكل، لا يتدخلون في ما لا يخصّهم، ولا يتخطّون حدودهم مع أحد. عادةً، ننعت بالآدمي من لا نعرفه جيداً، من نلتقي به في متجر، أو من يتقن حرفة وتكون سمعته باباً للثقة به… أو من يأتي على رئاسة وزارة من دون أي مشروع أو خبرة سياسية.
إذا كانت الصفة محليّة بهذا الشكل، لماذا دخلت المجال السياسي؟ وكيف أصبحت الصفة الوحيدة لشخصيات سياسية؟ فالسياسة دموية في بلادنا، وشرسة للغاية، ودخول «الأوادم» عليها لم يشكّل استبدالاً لأقطابها أو رموزها، ولم يجسّد تغييرات جذرية في الدولة والمجتمع. مرورهم كغيابهم، وإرثهم محصور غالباً بأشخاصهم.
الآدمي ليس نقيض السياسة الشرسة.
الواقع هو أن مُصطلح «الآدمي» أداة خطابية فعالة في إعطاء شرعية لشخصيات تصل الى السلطة عبر تعيين من زعامات أو أحزاب سياسية، غالبًا بالترافق مع الترويج لهم كأوادم. «الآدمي» يكاد يكون موظفاً دؤوباً، مخلصاً لعمله ومحدّدات وظيفته، لا يقبض الرشوة ولا يسرق ولا يتخطى قنوات أخذ القرار ولا يتدخل في وظائف من هو أعلى منه شأناً.
الآدمي ليس بطلاً.
الآدمي لا يفتتح معارك جديدة ولا يخلق مساحات في السياسة. الآدمي عكس السياسة. يأتي لمواجهة أي احتمال لتحدي المنظومة الحاكمة سياسياً أو شعبياً. الآدمي يُطمئن من في الحكم إذ أنه يعرف حدوده جيداً، بل يجسدها. هو البديل المقبول من قبل المنظومة الحاكمة.
الآدمي ليس أزعر، لأن السلطة والقوة فقط للزعران.
إن أردت أن تكون أزعرَ مثلهم، ستواجه زعرنتهم بعنفها وتخوينها وشيطنتها. المعارض المؤدّب هو معارض آدمي أيضاً. لا يستطيع ابتزاز السلطة بكشف زعرنتها، فهي فخورة بها، تحتاج إليها للحفاظ على قوتها. أمّا المعارض الآدمي، فيتذمر ويعود إلى عمله.
لا وجود للآدمي من دون الأزعر، ولا للأزعر من دون الآدمي.
الآدمي يحتاج للأزعر لكي يتمايز عنه أخلاقياً، بينما يحتاج الأزعر لوظيفة الآدمي لكي يضبط حدود الاعتراض المقبولة. تختار السلطة شكل الآدمي كمعارض مثالي، وتحتكر حريّة الزعرنة كعنف مقدس يخصها وحدها. فالسلطة تجيد توزيع الأدوار بين الأوادم والزعران؛ بين الموظف المصرفي وأصحاب المصارف، وبين ربطات عنقها وشبيحتها…
امتهنت السلطة رسم الحدود والمحاولة الدائمة لاحتواء المعارضة أو شيطنتها. وتقوم أجهزة السلطة الرسمية برسم هذه الحدود من خلال استدعاء المتظاهرين والناشطين أو إرسال أفواج حماية النظام عند أي مظاهرة «عنفية» أو من خلال محطاتها التلفزيونية التي تنهار عند كل حالة غضب شعبية.
أما المقبول، فهو المعارض الآدمي، المعارض الذي يطلب بأدب، ويقيم حفلات رفض الطائفية ويرسم شكل المدينة الفاضلة المستقبلية، المعارض الذي يعارض بكلمات فضفاضة، كالفساد والطائفية والزعماء، كلمات لا تحرج أحداً، ولا تفتح المجال أمام الفعل السياسي. المعارض الآدمي يعي أبوّة مَن في السلطة ولا يتعرّض لمقدساته.
يستعمل الطرف الأقوى صورة الآدمي لمحاصرة أي تهديد. لكنّ وظيفة الآدمي لم تعد ضرورية اليوم. جاء من يؤدّي دوره بطريقة أفضل: التكنوقراط. فالتكنوقراط هو وريث الآدمي.
تبنّت الانتفاضة بدورها لغة الآدمي والأزعر بشعارها كثورة «أوادم في وجه الزعران». فأرادت إسقاط «حكم الأزعر» وإيصال أوادم أخصائيين للسلطة. وحِملٌٍ كهذا لم يكن خفيفاً، إذ تم استعمال ثنائية الآدمي والأزعر لنزع الشرعية عن تحركات كسرت حاجز العنف (المضاد) في مراحل عدة، مما ساهم في شيطنة ومحاصرة المتظاهرين وتركهم فريسة للإستدعاءات والمحاكمات العسكرية. كما تمّ تأديب الانتفاضة بهذه الثنائية بالبطش تارةً وشيطنة الإعلام تارةً أخرى الى حين إغلاق وعسكرة المجال العام بداعي الجائحة. أسرّت الانتفاضة نفسها بهذه اللغة، لغة النظام.
مع ضيق المجال العام، ومحاصرة هذه الثنائية للزخم الشعبي في الانتفاضة، ومع تمادي الإنهيار المالي والأزمة الاقتصادية، يطرح عجز المعارضة عن التأثير سؤال الفعل السياسي. وهذا السؤال يحتم التخلي عن صورة الآدمي والحذر منها. إذ للسياسة إيقاع آخر،لا تحدده صورةٌ لمواطن نموذجي، منتج، مؤدب، يدرك حدوده، يتذمر بتهذيب، يطالب بتروي…