لفتني منذ مدة شعارٌ جديدٌ نسبيًا كان قد خُطّ على أحد جدران وسط بيروت، وهو يجسد رفض الحالة الراهنة التي نعيشها بكلمتين: يسقط شللنا.
تكمن أهمية هذا الشعار في أنه يختلف عن الشعارات الأخرى التي طُرشت على جدران بيروت خلال فترة الانتفاضة، والتي تحاكي معظم هواجس ومطالب وأحلام المنتفضين، أو التي تختصر مشروعاً سياسياً ما، أو تصوّب على نزوع نحو التحرّر من جزئية من هنا أو هناك.
يسقط شللنا شعار لا يحمل طابع الدعوة أو التبشير، ولا يعدنا بخلاص أو بجنّة موعودة، ولا يدفعنا نحو تحرّك من أجل قضية محدّدة. أهميته في أنه يصف حالة، ويتخطى توصيفها نحو توصيف شروطها، فاتحًا الباب أمام قراءة ما قبل الحدث وما بعده. هذا الحدث الذي لا يحدث، ولا يُترجم على أرض الواقع في أية دينامية ممكنة. هو حدث مؤجّل، حدث يفقد شروط تكوّنه حدثًا.
يسقط شللنا شعار يصف أعماق الحالة الراهنة بأبسط الأشكال الممكنة، بأقل التعقيدات، بأبسط الكلمات وأكثرها مباشرة. فنحن مشلولون ولا قدرة لنا على القيام بأي فعل، ليس على سبيل التحركات حصرًا. بل حتى فعل التفكير، وفعل الكلام وفعل الكتابة لاحقًا. فمنذ مدة ليس هناك من جديد يُقال، بل سيد الموقف هو التكرار الرتيب الذي يؤكد على المراوحة بما تعنيه من عدم تبدّل أي معطى. المشاكل إياها، والأزمات ذاتها، وجديدها مجرد تشكيل على أصل قائم، كلها تتزامن مع أكثر مراكمة للإذلال بحق جماعة بشرية خلال سنتين أرضيتين.
هذا ما قامت به السلطة.
احتلّتنا وشلّت حيّز يومياتنا بهذا القمع اللاقمعي. سجنتنا في بيوتنا من دون حاجتها إلى أية قضبان. أسرت وعينا، أشغلت عقولنا ومداركنا بتفاصيل يومية وواقعية أطاحت بأحلامنا الكثيرة والكبيرة، وعلى رأسها أحلام مخيال انتفاضة 17 تشرين التي تم دفنها الآن في مطلب انتخابات نيابية لن تغيّر في حقيقة المشهد أي شيء. وهذه ليست دعوة إلى الاستقالة من خوض هذا الاستحقاق، بقدر ما هي توصيف ووضع لمسار الأحداث في سياقها، وترتيبها، وشللها. إن طبقة حاكمة بهذا السوء لن تأتي بأي انتخابات لن تعيد انتاج ذاتها فيها، انطلاقًا من قانونها، أي شرط شروطها، وصولًا إلى نتائجها وما ستفرزه من نواب، كنتيجة حتمية للهيمنة على آلية فرز الأصوات. والفرز ثلثا النتيجة.
هذا الشلل هو أحد شروط فعل هذه الطبقة الحاكمة اللافعلي، وهو شرط موافَق عليه من قِبل النذالة الدولية التي كانت المبادرة الفرنسية خير تعبير عنها. نذالة ممزوجة بتعبئة فراغ يسدّ شراهة الدول لدماء اللبنانيين وفساد وإجرام زعاماتهم. إذ لا مشكلة عند هذا العالم في أن تبقى الطبقة الناهبة والمجرمة على رأس السلطة في لبنان، أو أن تبقى الطبقة المجرمة في أية دولة عربية أو «عالم ثالثية» كذلك، كما صمت عن الجرائم بحق الشعب السوري والليبي واليمني والمصري... وصولًا إلى الفلسطيني. بل كل ما يهمّ هذه الشرعية الدولية العفنة، أن تساق الأمور بشكل يحافظ على الأرباح، ولو على حساب الرأسمال البشري بمعظمه.
لقد استطاعت الأوليغارشية أن تشلّنا. لكنّ الشلل خير معبّر عن سمات مثل هذه المراحل، وهو تأكيد على حالة الانسداد. هو تأكيد على انزياح في الشرعية، وفي الجدوى من المواجهة ومن الفعل، وصولًا إلى عدم القدرة على الإتيان بأي فعل عبر أية دينامية كانت، لأنها دينامية وحركية لاتراكمية مشلولة بدورها. دينامية تشبه دولابًا في قفص، يعدو فيه «الهامستر» حتى يصل إلى إعياء ناتج عن حركة دائرية تنطلق من نقطة لتعود إليها ذاتها دون أي تجديد.
هي دينامية مشلولة في قفص محصور، وفي أحلام تمّ تقويضها.