كيف هو ذاك الشعور؟
أن تكون وحدك
بلا أي وجهة إلى البيت
تماماً مثل المجهول
مثل الحجر المُتدحرج
— «Like a Rolling Stone - كالحجر المتدحرج»، بوب ديلان.
كالحجر المُتدحرج، يقوم المُهاجر من لبنان بتلك الخطوات المرعبة التي تصل به إلى قرار الهجرة بلا أي وجهة واضحة… لا يختار لا طريقة عيشه ولا نمط حياته ولا حتّى طريقة موته.
يرحل دائماً بعَجَلة، لعلّه ينقذ نفسه من العيش كجثةٍ قيد الحياة بين أيدي المُدراء العامين والمخلصّين والمستشارين والنوّاب والوزراء والأجهزة والمصارف والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية ومولّدات الكهرباء…
إن كان حظّنا جيداً في الحياة، سنتمكن من اختيار طريقة موتنا.
ولذلك عقلي يردّد لي دائماً عجّل، أسرِع، إحمل البارودة وضعها في فمك وأطلق النار قبل أن ينفجر البلد بك.
الموت بشروطك الخاصة أفضل من أن يقتلوك.
أو لا تمت ببساطة، خلّيك عايش على قلبهم، ولكن خارج الأماكن الأقرب إلى قلبك. بعيداً عن ذكرياتك وعمّن أحببتهم وأحبّوك وتكلّموا لغتك وجلستم بدوائر للمنيكة من دون اكتراث على شكل المستقبل القريب.
كان عليّ أن أختار الحياة خارج النوستالجيا لأشعر بالهجرة.
تاريخياً، النوستالجيا هي الاسم الأوّل والأصلي للتروما.
يفسّر الكوميدي الأميركي الراحل جورج كارلين تاريخ تطوّر التروما، من بدايته مع انتهاء الحرب العالمية الأولى حيث كانت تُدعى الارتجاج الدماغي، قبل أن تتطوّر مع الحرب العالمية الثانية لتصبح معروفة بإرهاق المعركة. مع الحرب الكورية في عام 1950، باتت تُسمى إرهاق تشغيلي. واليوم يتطوّر مفعول حالة النوستالجيا لتُسمى اضطرابات ما بعد الصدمة. تتغيّر التسمية وتبقى الحالة وهي الشوق للعودة إلى البلد الأم. كانت الحالة تُحصر بالمقاتلين أثناء عودتهم من الحروب العالمية لتُصبح سرطاناً معنوياً نحمله معنا في قلوبنا وصدورنا أينما حللنا كمهاجرين.
لم نكن نتوقّع يوماً أننا سنعيش في العَوَز، أننا سنمدّ أيدينا لرفاقنا بلا أي شيء لنقدّمه. لم نكن نتوقّع أن يموت الإبداع فينا وأن نصبح ماكينات تعمل ليلاً نهاراً لتدفع بدل إيجار غرفة. لم نتوقّع أننا قد نعيش أياماً أسوأ. اليوم الأسوأ أصبح مملاً في رزنامتنا المشتركة. الأهم أن نكتة بدي إتجوزك كرمال الباسبور لم تعد نكتة. الحب في جواز السفر هو جائحة بنفسها.
ولذلك معظم الذين حملوا نفسهم وصعدوا في الطائرة نحو المجهول كان هدفهم واحد وهو عيش يوماً جميلاً. أو على الأقل يوماً هنيئاً ننهيه بصمت ليل آمن. هذا كان هدفي حين غادرت لبنان، ألّا أعيش القلق الذي عشته في بيروت، ووثّقته وصورته، وأن أنسى الدماء التي مسحتها يوم الثلاثاء ما غيره. حتّى الحنين، حتّى النوستالجيا التي نعاني منها هي ذكرى دموية.
غادرت لبنان لشهر متمنيّاً أن أشحن نفسي بالقليل من الطاقة لأعود إلى قلب حبيبتي النوستالجيا. ألّا أعيش بعيداً عنها يوماً بعد، رغم سوء الأحوال. حملت نفسي وقررت العودة إلى بيروت بعد شهر من البعد عنها.
أجلس في الحجرة 204A في مطار صبيحة أنتظر طائرتي العائدة الى بيروت.
جيراننا في حجرة 204B ينتظرون طائرتهم العائدة إلى «تل أبيب». وكأن إدارة المطار تستقصد أن تضعنا في المكان نفسه دائماً. للصراحة كان المشهد مقززاً، خصوصاً حين قام أحدهم بالصراخ على مضيفة شركة «بيغاسوس» قائلاً أريد العودة إلى البيت باللغة الإنكليزية. لم أجد ما أقوله له سوى كلمتين أنا متأكّد أنه سمعهما من قبل حول بيته الوهمي في تل أبيب: كول خرا.
حدّق بي من بعيد وسار نحو عائلته، وسرتُ أنا نحو حجرتنا اللبنانية، حيث كانت مدّة الانتظار تزيد كل ساعة فتصبح ساعتَين، إلى أنّ انتظرنا 10 ساعات إضافية، وأُلغيَت الطائرة عند السادسة صباحاً بسبب كثافة الضباب في اسطنبول ذاك اليوم.
في تلك الليلة تعرّفت على لبنانيين وسوريين وألمانيّين كانوا يشتمون اللحظة التي اختاروا فيها طيران «بيغاسوس» المعروف بفان رقم 4 تبع السما للعودة إلى ما لا يريدون العودة له. تشاركنا النكات عن لبنان، ضحكنا على مآسينا، أحدهم عرفني بسبب صورة قمت بالتقاطها منذ بضعة أشهر لأربعة أشخاص ينامون على البلكون بسبب الحرّ. هو أب لعائلة مؤلّفة من أختين وأخوَين انتظروا جميعهم الطائرة ليومَين في المطار نفسه بسبب سوء إدارة الشركة.
هدفهم من زيارة لبنان هو رؤية أم الأولاد وزوجة الأب المريضة جداً، وهم يتوقّعون وفاتها قريباً. في الطائرة، قبل إلغاء الرحلة رسمياً، وصلت للأب رسالة مفادها أن زوجته في بيروت قد فارقت الحياة قبل وصولهم إليها. أمسكت إحدى البنات فمها وركضت إلى خارج الطائرة لتتقيّأ. الشخص الوحيد بين المسافرين من الجنسية السورية ضحى بنفسه ليترجم لجميع المسافرين ما يقوله لنا القبطان. دخلنا في حالةٍ من الهيستيريا داخل الطائرة حتى أُخرجنا منها بالعراك.
أعود إلى الحجرة 204A ولا أجد من أتكلّم معه سوى إمرأة عشرينية سألتني إن كان لدي أي وحدات إتصال داخلي في تركيا أو ميغابايت للتواصل مع أحدهم عبر الواتساب. يأتي من خلفي شاب آخر يسألني إن كنت أحمل بعض المال وسيعطيني جواز سفره بالمقابل. وصل شاب آخر يسألني إن كان معي زجاجة مياه لأن الأب المُرَمّل غاب عن الوعي. الصراخ أسمعه من كل زاوية في مطار صبيحة. جميع الطائرات نزلت إلى الأرض وألغيَت جميع الرحلات بسبب كثافة الضباب.
في لحظة واحدة توحّدنا وأصبحنا لبنانيين مقيمين، لا مغتربين، نجلس في الكوريدورات على الأرض، يعرقل حياتنا الضباب غير المتوقّع. مفلسون، بلا ماء، بلا هاتف، بلا انترنت، ننتظر… ماذا ننتظر؟ لا نعلم. لم يعلّمنا أحد حاسة «توقُّع الأسوأ»، فالأسوأ يحدث بلا أي إنذار.
تأتيك البعصة من حيث لا تدري... وهكذا نعيش عند كل انتكاسة. حياتنا كلها عبارة عن انتكاسات وانهيارات ووداعات ورَوحات بلا رجعات. الوضوح ليس في الشارع، ولا في صناديق الاقتراع، إنّه في حجرات المطارات حيث انتظرنا لساعاتٍ الختم ليقع كالصاروخ على جواز سفرنا البالي. وعند كل رفضٍ نعود إلى حبيبتنا، النوستالجيا، غصباً عنّا لنشتم الساعة التي وُلدنا فيها. وليس للأجيال القادمة سوى شتم الأجيال التي سبقتها.
في نهاية الليلة كنا نتحدث أنا والشاب الذي كان يبحث عن ماء. لخّص لي كل ما كان يدور في رأسي.
إنتخابات قال… هههههه… معلم نحنا نوصل على بيروت مع هالإدوية لأهلنا وخلّينا نتستّر وكل شي منيح.