يوميات
سلسلة
سجلّ الانهيار
جاد نصرالله

فراق أو breakup

9 نيسان 2021

تَسَلسُل الأحداث الواردة أدناه مستمرّ منذ خريف 2019. صلتها بالواقع ليست محض صدفة. يحقّ للمخيّلة المطابَقة مع شخصيات حيّة أو ميتة على اختلاف أهوائها وميولها.

يدها في الضُحى تَهُزّني. قالت أنا ذاهبة. لَم أَعِ وعيوني مغبّشة قصدها. لكن ها أنا ذا مُمَدَّد في جانبي من السرير أفهم حقيقة انفصالها عنّي. رَحلت هذه المرة إلى غير رجعة. تركتني مع أُحجِيَةٍ متعددة الاحتمالات سيبقى الشكُّ يؤرقني بصحتها جميعها.

بعد إنفجار المدينة في غَسَق الرابع من آب، لم نعد الشخصين نفسهما. تغيّرت عاداتنا. هي فقدت قدرتها على الابتسام. وأنا تعبت من الادعاء أن الأمور على ما يرام. لم تنجح كل محاولاتنا للترميم، أو الأصّح الترقيع. فالمشاعر ليست بالقوة. وليس لأيٍّ منّا على الآخر شيء. كان تاريخ صلاحية علاقتنا قد انتهى. وهي مَن ملكت الجرأة لإعلان ذلك. كتبت لي حينها معبّرةً- على قدر ما أسعفتها الكلمات- أنها «تعيش لتنجو»، فقط لا أكثر. وأننا ضحايا أحياء لهذا البلد الملعون. لا شهداء. وهل يستشهد أحدٌ في سبيلٍ لم يختره طوعاً؟

ما زال لديك بضع دقائق، يُعْلِمُني المعالج النفسي حين فرغت من كل كلام. أُعيدُ له حكايتي نفسها فيما هو لا يُسْمِعُني من معرفته العلمية شيئاً. أظنّه بحاجة للعلاج. لِمَ يكون متوازناً أصلاً ولَم يَسلَم أحَدٌ بعد تَتالي الانفجارات منذ 17 تشرين! أدفع له بالليرة اللبنانية، أًضع الكمامة على وجهي وأنصرف لمداواة نفسي المعطوبة بنرجسية رافضة لإدراك أي مدّعٍ كُنهَ أزماتي.

مَرَّ الوقت الكافي لفَك الحِداد. انتقلت إلى مسكن جديد يملأ ضوء الشمس فضاءه فيستَميل أوراق نباتاتي إليه. حَوّلته إلى دُغلٍ. أشجاره لها أسماء أطلقتها عليها، ونعتّها بصفات البشر. قَرّرتُ نظاماً صحياً من الأكل والرياضة والنوم، وأوقاتٍ محدّدة للعمل. سوف أتخلص من إدماني الدخان والكحول ومواقع التواصل الافتراضي، كما سأقفل جميع تطبيقات الأخبار ومتابعة عَدّادَيْ إصابات الكورونا وسعر الصرف في السوق السوداء. تفاصيل صغيرة كافية للمكابرة على تناول المهدئات وإقناعي أنني على ما يرام. سوف أزيل كل أسباب التوتر اليوميّ التي تنغّص سعادتي في الحياة، بالسهولة نفسها التي اقتلعتُ بها من على البراد صفحةً من خطاب فيلهلم رايش إلى رجل صغير كانت قد علقتها صاحبتي حتى أرى أنا ما أعابَتهُ عليَّ من تسوّل السعادة.

...ولأنك لم تتعلّم يوماً كيف تخلق السعادة، كيف تتمتّع بها، وكيف تحافظ عليها، لا تعرف شجاعة الصمود.

لم أَصمُد. صرت كلما وضعت جدولاً لمهمات اليوم، لا أجد طاقة للبدء. وإن نجحت وانطلقت، لا أطيل قبل أن أخفت وأهمد كَسلاً على الكنبة، وأغرق في وحول العالم من شاشة هاتف في كف يدي. كنت أواسي نفسي كذبا لأبتعد عن الخراء العام وأزماتي الشخصية. أنا مكتئب. محبط أبحث عن أي سبب للبكاء ولا أفلح. لست على ما يرام. سوف أرحل. أرمي كل شيء أمامي ومن حولي ورائي وأمضي. بهذه السهولة. ففي بعض المواقف، يبدو الـ«لا شيء» أفضل ما يجب القيام به، بحسب متفوّه أعجبتني أقواله فيما مضى.

حصل أن صادفت مَن تشبهني، وأنا أخلع عنّي عالمي الذي رفضتُه لأمضي بخفّة كما حلمت في اليقظة. وكل شبيهين يجتمعان، كما يقول المثل الفرنسي. بعدما تحصّنت خلف جدار سميك يتلقّى عني ضربات دامية من النوع الذي تَنمو الأورام بين شقوق كسورها. قشرة بيضة أغلف كياني بها، كما مازحتني شبيهتي لاحقاً. فأنا أدّعي ما لَستُهُ داخل هذا الهيكل كلّيّ التماسك، وقشرته الرقيقة ستُعَرّيني حتماً عند أقل اهتزاز. عندما تصيّدتُها في تلك السهرة البَحرِيَّة، أقنعتُ نفسي أنّ لا ضَيرَ بقليل من تسليةٍ أحترفها. لم أخطّط للتورّط والانزلاق في دوّامة الأحاسيس من جديد. لم يعد لديّ ما استثمره مع أحد. كل مشاعري صرفتُها وخسرتُها في الحب القديم. وإذ بها تُسلي الهوى. تستيقظ باكراً لتُعدَّ لي طقوسي الصباحية بشغف. تنهي الأعمال المنزلية بمهارة. شاركتني ولعي بالنبات وأتقَنت العناية بها فأزهرَت حتى غِرتُ عليها منها. أراحني وجودها في المكان. رُحتُ أنتظر هجماتها العاطفية. بحبك! قالتها وحكت كيف أنها تصنع لحبّنا جنة نحيا بها، فتحمينا من البشر وتفصلنا عن كل البشاعة التي تدور في الجحيم خارج حدود مساحتنا لمّا نكون معاً. لم أعلم لِمَ تسلّطتُ عليها بعاطفة أنانية. وأسقطتُ عليها شبح حبيبتي التي رحلت ثم عادت ثم رحلت. ولَم أعلم أيضاً لِمَ أبقيتُ عليها معي كل هذه الشهور، إلى أن رجعتُ يوما إلى فردوسنا حاملاً معي الفايروس.

من عوارض الفيروس الجانبية أنني صرت وحيداً في منزلي. مساحتي الآمنة. جنّتي أنا. رجعت إلى أشيائي الصغيرة. إلى مقتنيات جميلة احتفظت بها من علاقاتي السابقة. إلى سريرٍ لا يُقسَم نصفين إلّا عندما أقرر أنا ذلك. أداعب نفسي مستحضراً في خيالاتي مَن أشتهي من دون شعور خيانةٍ يؤنّبني. اشتقتُ إليّ وحدي. فَرَطتُ عقد الجنة التي وعدتني بها. هجرتها. تلاشى وهم السعادة أمام فرديتي. هذا العطب الدائم فائق اللذة. مرض العصر الذي لا شفاء منه ولا علاج يُرتَجى له في جحيم البلد هنا. لن أتنازل عمّا استحقّيته لأجل ما لا طاقة لي عليه بعد الآن. لم أعد أحتمل. لا أدين لأحد بتفسير أو اعتذار. أنا راحل.

سلسلة

سجلّ الانهيار

يحاول ملف «سجل الانهيار» أن يلتقط معالم ومعيش حالة انهيارنا الحالية. كل أسبوع، كلمة أو ممارسة أو مكان أو عادة أو فكرة، يتناولها كاتب أو كاتبة، لكي يـ/تصف تحوّلاتها أو التغييرات بمعانيها. على مدار الأسابيع والنصوص، نطمح إلى بناء أرشيف مفتوح أو قاموس متعدّد الأصوات لحالة الانهيار، علّنا نجد فيه بعضًا من الثبات في تشارك التجارب والمعاني. الدعوة مفتوحة للمساهة في هذا الملف، من خلال اختيار كلمة (قد تكون ممارسة أو إحساس أو عادة أو مكان…) ومحاولة وصف مآلاتها بعد أكثر من سنة من التحوّلات.

سجلّ | فكرة
رسالة من عواطف، إليك | يوميات
طلّاب | تحليل
الشقّة | نظرة
دياسپورا الضباب | يوميات
الشلل | يوميات
استوَيْنا | يوميات
فلاش باك | تعليق
إيجار السكن | يوميات
حديقة الصنائع | يوميات
وقود النظام | تحليل
تمارين في الحفاظ على العلاقات | يوميات
Powerbank | يوميات
السعادة | يوميات
الفريش دولار | يوميات
الشحار | يوميات
الكفالة | نقد
الآدمي | تحليل
المصرف | نص

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
الكنيست الإسرائيلي يقرّ ترحيل عائلات منفّذي العمليّات لمدّة 20 عاماً
إسرائيل تدمّر مبنى المنشية الأثري في بعلبك
جماهير «باريس سان جيرمان»: الحريّة لفلسطين
مطار بيروت يعمل بشكل طبيعي
فكشن

الدني بتهزّ، ما بتوقاع

عمر ليزا