200 يوم على حرب غير معلنة
لبنان في حالة حرب متواصلة منذ أكثر من 200 يوم، قتلت إسرائيل خلالها 401 شخصاً منذ 8 تشرين الأول 2023، من بينهم 69 مدنياً، منهم 3 صحافيين و18 مسعفاً و8 أطفال و20 امرأة. ومن بينهم أيضاً 332 مقاتلاً ينتمون لفصائل لبنانية وفلسطينية، ومن ضمنهم عنصران من الجيش وقوى الأمن الداخلي.
لبنان في حالة حرب متواصلة منذ أكثر من 200 يوم، وتمتد ساحة القتال على طول الشريط الحدودي، أو حتى بعمق أكثر من 70 كيلومتراً داخل الحدود، في بعلبك والهرمل حيث قصفت إسرائيل أهدافاً قالت إنها لحزب الله طوال الشهرين الأخيرَين. أكثر من 66 بلدة على الشريط الحدودي، أو محاذية له، تعيش منذ اليوم التالي لطوفان الأقصى اعتداءات إسرائيلية بالقصف المدفعي والطيران الحربي والمسيّرات، وبقذائف الفوسفور التي استهدفت 45 بلدة على الأقلّ. تدمّر خلالها أكثر من 10,500 وحدة سكنيّة جزئياً أو بالكامل، واحترق فيها ما لا يقل عن 60 ألف شجرة زيتون، بحسب وزارة الصحة. كما ألحق الفوسفور الضرر بأكثر من 6,000 دونم من الأراضي الحرجية والزراعية، وتضرّر أكثر من 10 آلاف من مزارعي التبغ نتيجة العدوان، كما فُقد 50% من محصوله هذا العام.
لبنان في حالة حرب متواصلة منذ أكثر من 200 يوم، ما أدّى إلى نزوح 92,094 جنوبياً من أرضهم ولا يزال مصيرهم غير واضح، بين عودة مستحيلة قبل الإعلان عن وقف لإطلاق النار، وضياع في مراكز نزوح لا شيء مؤمّناً فيها إلا بعض شعارات سياسية لا أكثر.
كل هذه الأرقام تبقى غير رسمية، يغيب عنها الإحصاء الحكومي بسبب العجز أو تبديد أي إحراج ممكن نتيجة الأرقام والخسائر.
لبنان في حالة حرب غير معلنة.
200 يوم على حرب غير مفتوحة
تلقّى حزب الله في أوّل أيّام المواجهات على الحدود الجنوبيّة ضربات قاسية، وخصوصًا على مستوى أعداد المقاتلين الذين سقطوا خلال تنفيذ العمليّات. اكتشف الحزب سريعًا مستوى التطوّر الذي شهدته تقنيّات المسيّرات العسكريّة الإسرائيليّة من حيث النوعيّة، كما اكتشف تنامي أعداد المسيرّات التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي على الحدود. وهذا ما أشار إليه الأمين العام للحزب حسن نصر الله في تلك المرحلة، حين لفت إلى أنّ تحرّكات مقاتليه على الحدود المقيّدة ضمن قواعد الاشتباك، باتت تشبه العمليّات الاستشهاديّة تحت ضربات المسيرات الإسرائيليّة.
غير أنّ حزب الله سرعان ما وجد طريقه للتأقلم مع الواقع الجديد، وهو ما أظهر ديناميّة في التعامل مع المتغيّرات العسكريّة. فمع تطوّر المواجهات، أقحم حزب الله في معركته الصاروخ الإيراني الموجّه «ألماس 3» الذي سمح لمقاتليه باستهداف المواقع الإسرائيليّة من مسافات بعيدة عن الحدود. كما أقحم الحزب تقنيّات جديدة لم يفصح عن طبيعتها لاستهداف وإسقاط ثلاث مسيّرات إسرائيليّة من نوع «هرمز»، وهو ما قيّد حركة المسيّرات في الأجواء اللبنانيّة. أمّا التطوّر الأكثر إيلامًا للجيش الإسرائيلي، فكان استخدام صواريخ «فلق 1» الإيرانيّة ذات الدقّة العاليّة، لضرب التحصينات الإسرائيليّة. وبالتوازي مع كل ذلك، دخلت دائرةَ الاستهدافات مناطقُ جديدة مثل صفد وعكّا والجولان، بالإضافة إلى قاعدة عين زيتيم في منطقة الجليل. وبهذا الشكل، زاد الحزب من الضغط العسكري الذي يفرضه على إسرائيل.
رغم الخسارات ضمن صفوفه، حقّق الحزب بعضًا من الأهداف التي رصدها منذ فتح جبهة المساندة: وضع الجيش الإسرائيلي في دائرة الإشغال، والتأقلم مع الردود العسكريّة الإسرائيليّة وتقليص أثرها، من دون أن تصل المواجهة إلى حد الحرب المفتوحة بين الطرفين.
200 يوم على انقسام بلا أفق
إذا وضعنا هاتين الصورتين جنبًا إلى جنب، يتضّح مدى الاستقطاب حول هذه الحرب التي عمقّت الانقسام الداخلي حول إشكاليّة سلاح حزب الله وارتباطاته الإقليميّة.
فلأنصار الحزب وحلفائه الأكثر حماسة لدوره المقاوم، أكّدت الحرب الراهنة فرضيتهم عن هشاشة الجبهة اللبنانيّة والحاجة لحزب الله لردع إسرائيل، كما بيّنت تطوّرات الأشهر الماضية. فيرى هؤلاء أنّ لبنان موجود في منطقة ممتلئة بالتناقضات وأسباب الانفجار المؤجّلة، التي يمكن أن تتحوّل إلى حرب شاملة في أي لحظة، وهو ما يؤكّد- مجددًا- أهميّة هذا السلاح، بكل ارتباطاته وأبعاده الإقليميّة.
في المقابل، يرى خصوم الحزب في الأحداث الراهنة ما يدلّ على العكس تمامًا. فبحسب هذه الرؤية، أثبت الحزب أنّ امتدادات حزب الله الإقليميّة يمكن أن تدفعه في أي لحظة إلى فتح جبهة جديدة، لا علاقة لها بالحسابات اللبنانيّة المحليّة. وإذا كان الحزب قد نجح حتّى اللحظة بمنع تحوّل المواجهة إلى حرب مفتوحة، فهو يبقي- حتّى هذه اللحظة- الحرب المفتوحة احتمالًا قائمًا، عبر ربطه مصير الجبهة اللبنانيّة بتطوّرات الحرب في غزّة أو أوامر طهران.
بين الرأيين، ثمّة شريحة ثالثة ينبغي الالتفات إلى موقعها الحسّاس في التركيبة اللبنانيّة. فجزء واسع من الشارع اللبناني المسلم، وخصوصًا السنّي، الذي يحتفظ حتّى الآن بموقفه السلبي من الحزب وارتباطاته الإقليميّة، اختار غضّ النظر عن تحفّظاته حتّى إشعار آخر، أمام مشاعر التضامن مع قطاع غزّة، وضرورة تخفيف ضغط الحرب على القطاع بأي وسيلة ممكنة. وهذا لا يعني انقلاب موقف هذه الفئة تجاه الحزب وسلاحه ودوره بالضرورة، لكنّ موقفها بات أقلّ حدّة.
البحث عن موقف غائب في سجال جامد
بين تلك المواقف الثلاث، غاب عن النقاش العام موقف أكثر اتزانًا، ينطلق من الواقع الجديد من دون التضحية بمواقف الماضي.
يبدأ موقف كهذا بالاعتراف بصعوبة فصل المسألة اللبنانيّة عن الإشكاليّات الإقليميّة الراهنة، ومنها تلك المتّصلة بوجود إسرائيل كمشروع استيطاني في المنطقة. وأبرز تجليّات هذا المشروع تكمن اليوم في استمرار الإبادة القائمة في غزّة. لذلك، لا يمكن الإجابة عن إشكاليّات النظام السياسي في لبنان، من دون التعامل مع هذا الجانب من الأزمة.
غير أنّ هذا الموقف يمكن أن يلحظ أيضًا الإشكاليّات المتّصلة بحزب الله وسلاحه، ومنها الدور الذي لعبه على مستوى الإقليم خلال الثورة السوريّة، وعلى المستوى المحلّي اللبناني كدعامة للنظام القائم. وإذا كان حزب الله قد نجح- حتّى الآن- في التعامل مع متغيّرات الميدان العسكري، إلا أنّه فشل بوضوح في ترجمة هذا النجاح بإجماع وطني على المواجهة التي يخوضها. وهذا ما يفرض الاستمرار بمقاربة الحزب وسلاحه كإشكاليّة مولّدة للأزمات، في بلد تطغى فيه الاعتبارات الطائفيّة على ما سواها من حسابات.
والانطلاق من هاتين النقطتين يفرض أولويّة الخروج من سياسة المحاور، التي فرضت خيارًا بين نظام أمني عربي-إسرائيلي وتحالف ميليشيات مرتبطة بتحالف إقليمي ذي أبعاد طائفيّة. ولذلك، لا يمكن للنقاش حول دور لبنان في المنطقة، أن يبتعد عن مقاربة هذه المسألة أيضًا.
ربّما من الصعب اليوم صياغة هذا الموقف، الفاقد لأي دعامة سياسية. لكنّ وضع هذا السؤال على الطاولة قد يكون أفضل من الاستمرار بمواقف الماضي، التي برهنت فشلها على مدار العقود.