كانت الجنازة رمزيّة. لكنّهم أطلقوا قنابل الغاز على النعوش. عرف القَتَلة أنّ تلك النعوش لم تعد نعوشاً لضحايا 4 آب. رأوا أجسادهم الغليظة داخل تلك النعوش. رأوا موتَهم الآتي في وجوه أهالي الضحايا التي كبرت ألف عام، ولم تعد تتّسع لأيّ تعبير إلا الرغبة بالانتقام.
تفاجأ القَتَلة بأهالي الضحايا. ظنّوا أنّهم ماتوا من زمان، قبل 11 شهراً. ظنّوا أنّهم يمضون أوقاتهم في الصيدليات، يبحثون عن آخر حبّة زولوفت لم يصادرها المحتكرون، ولم يرفض حاكم المسلخ المركزي أن يدعم ثمنها. ظنّوا أنّهم يمضون أوقاتهم يبحثون عن تقنيّات التهدئة في آخر موعد مع آخر معالجة نفسية لم تغادر البلد. لم يعرفوا أنّ الانتقام هو العلاج الوحيد الذي باتت تصفه العيادات المحترمة. الغضب، ثمّ الغضب. حافظوا على غضبكم حتّى لا يقتلوكم مرّتين.
تفاجأ القَتَلة بأهالي الضحايا. ظنّ القتلة أنّ بإمكانهم أن يدفنوا رأسهم في التراب، وأنّ ما من أحد سيلاحظ الدماء على أيديهم. تخلّوا فجأةً عن ذكورتهم المنفوخة وتحوّلوا إلى مجرّد موظّفين صغار يقنعوننا بأنّهم قاموا بواجباتهم وأخبروا رؤساهم ومرؤوسيهم بمادّة حطّت في غفلةٍ منهم داخل العنبر رقم 12. تخلّوا فجأةً عن جبروتهم وتحوّلوا إلى عاجزين يعرفون لكنّهم لا يعرفون.
لندع الآن القاتل الصغير محمّد فهمي جانباً. فهذا البارافان ذكّرنا أنّنا بعد 11 شهراً على جريمةٍ دمّرت ربع المدينة، ما زلنا نبحث في مسألة محاسبة القادة الأمنيّين. هل كان عباس ابراهيم فعلاً يحتاج إلى قرار من قاضي التحقيق كي يستقيل ويضع نفسه في تصرّف العدالة؟
بخلاف العميد المتقاعد محمّد فهمي الذي استخدم عبقريّته العسكريّة ليقنع الناس أنّ مستودعاً للمفرقعات دمّر مدينتهم، امتلك عباس ابراهيم على الأقلّ جرأة أن يكون أوّل من أقرّ بوجود نترات الأمونيوم. لكنّ المدير العام الذي طوّبته شاشات التعريص كـ«رجُل العام» وكلّ الأعوام، لم يجد تناقضاً بين معرفته بما كان يوجد في المرفأ، واستمراره في وظيفته كمدير عام للأمن العام. أراد لنا أن نبحث في القرارات والصلاحيات لنتأكّد من براءته. لم يخطر له أنّ حتّى البراءة، إن وُجدت، لا تعفيه من المسؤوليّة، خصوصاً وأنّ بصمات شريكه في صفقة تحرير راهبات معلولا، تاجر النفط والدم بين داعش والنظام الأسديّ، وُجدت آثارها على أكياس نترات الأمونيوم.
لكن عن أيّ قادةٍ أمنيّين نتحدّث؟ هل تذكرون فارّاً آخر من العدالة يدعى أنطوان صليبا، ما زلنا ننتظر ما إذا كان سيعطى القضاء الإذن لملاحقته. لم يهرب المدير العام لجهاز أمن الدولة من قضيّة المرفأ وحدها، بل من قضيّة زياد عيتاني أيضاً. لا، ليست قضية عيتاني. إنّها فضيحة جهاز أمن الدولة في بلد المقاومة المفلس، الذي لا يتورّع عن فبركة شبكات تجسّس بحثاً عن بطولات وهميّة لكشف المؤامرات والحصول على أوسمةٍ وترقيات. لم نكن نحتاج لتدمير ربع المدينة لنعرف عن هذا الجهاز. كوليت وحدها كانت تكفي.
أمس، انهال العسكر بالضرب على أهالي الضحايا. قالوا لهم: أضرُبوهم علّهم ينسون. القتلة أنفسهم الذين قتلوا، يقتلون مرّة ثانية. وسيقتلون مرّة ثالثة ورابعة. فنحن نعيش في مسلخٍ. مسلخ يموّله رياض سلامة، ويحرسه قادةٌ أمنيّون برعاية حسن نصر الله، ويلعب في أروقته ولدان سمجان تُدندل المخطة من أنفَيْهما، يبحثان على ما تبقّى من حكومةٍ وصفقاتٍ فوق أشلاء الضحايا.
أمس، انهال العسكر بالضرب على أهالي الضحايا. لكنّ أسيادهم كانوا خائفين من مشهد النعوش. كما خافوا في 8 آب من مشهد المشانق. هذا الخوف لن يخرج من صدورهم. تماماً كما ستلاحقنا تلك الغيمة البرتقاليّة حتى آخر يوم من حياتنا، سيلاحقهم الخوف وتلاحقهم اللعنات إلى أن يأكل الدود آخر خليّة من خلاياهم. يا صديقتي، أيّتها الدودة، لا تنسي تلك الغيمة.