قضية الأسبوع طوفان الأقصى
ميغافون ㅤ

مجمّع الشفاء والنكبة الثانية

18 تشرين الثاني 2023

مجزرة دامت أيّاماً

اقتحم الجيش الإسرائيلي مجمّع الشفاء الطبي في مدينة غزّة بعد ادعاءات بأنّ حماس تستخدمه مركزًا لعملياتها العسكرية. جاء الاقتحام أيامًا بعد محاصرة المجمّع واستهدافه بالصواريخ والقذائف وقنص من بداخله، ما أدّى إلى سقوط العديد من الشهداء، من بينهم أطفال خدّج شاهد العالم احتضارهم البطيء على شاشات الهاتف، لنكون قد دخلنا مرحلة جديدة من الانحطاط الإنساني. 


ركاكة الرواية الإسرائيلية أو القضاء على المعنى

سبق الاقتحام حملةٌ إعلامية إسرائيلية تحاول رسم المجمّع الطبي كغطاء «مدني» للعمليات العسكرية، ما يبرّر اقتحامه. فمنذ بداية العدوان، تحاول الماكينة الإعلامية الإسرائيلية سحب صفة «المدنية» عن أي فرد أو مبنى أو حي في القطاع. جميعهم إرهابيّون، بحسب وصف وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير لمن يقطن في غزة. 

قبل مجمّع الشفاء وحملة التضليل، كان هناك مستشفى آخر وحملة أكاذيب تمّ فضحها بعد دقائق على نشر الجيش الإسرائيلي «أدلّته»، من جدول لأيام الأسبوع إلى نفق غير وجود مرورًا بدراجة نارية. وقبل هذا، مجزرة مستشفى الأهلي وحملة تضليلها الركيكة أيضًا، والتي كانت بمثابة «الضوء الأخضر الغربي» للانطلاق بعملية الإبادة.

فهمت إسرائيل أنّها خسرت معركة الرأي العام العالمي، مهما حاولت الاستخبارات الأميركية الدفاع عن روايات الحكومة الإسرائيلية. عواصم العالم تشهد تظاهرات ضخمة، قد تكون من الأكبر منذ عقود، الإعلام الغربي بدأ يتفلت من قبضة الرقابة التي فرضت في الأسابيع الأولى، الإجماع السياسي بدأ يهتزّ جرّاء تزايد المجازر… في وجه هذه المعارضة، تحاول سلطات الاحتلال تحويل مجمّع الشفاء إلى «الضربة القاضية الإعلامية»، لكن ليس لها ما تقدّمه من «أدلّة» غير الألاعيب والأكاذيب ذاتها، التي لا تقنع إلّا الإدارة الأميركية. 

لكنّ الركاكة الظاهرة قد تخبّئ هدفًا أكثر خبثًا، هو القضاء على المعنى. ففي رفضها الخضوع، حتى الصوري، لأي معيار، إنساني أو قانوني أو حتى معيار المنطق، تفرض إسرائيل منطقًا آخر للتعاطي معها، وهو منطق الاستثناء. نجحت إسرائيل بإقناع العالم بأنّها الدولة الوحيدة التي لا تسري عليها قوانين الحروب أو حتى معايير الكلام. هذه الاستثنائية هي التي تسمح لها بالقيام بما يشبه إبادة متلفزة من دون أي اعتراض عالمي، خارج التبلكُم المرضي لمسؤولي الحكومات الغربية عندما يواجَهون من إعلامهم. 

ركاكة الرواية الإسرائيلية ليست فشلًا، هي المدخل لـ«استثنائية أخلاقية» تبرّر أبشع الفظائع


انتقام مجنون أو خطّة مسبقة

سمحت هذه «الاستثنائية الأخلاقية» لسلطات الاحتلال بارتكاب جرائم حرب بطريقة ممنهجة. 

يأتي اقتحام مجمّع الشفاء بعد حملة على المستشفيات بدأت مع مجزرة مستشفى الأهلي التي فتحت المجال للاستهداف الممنهج للقطاع الصحي بأبشع الطرق، من حصار مستشفياته إلى قصفها بصواريخ تمزّق الأشخاص إلى قطع، إلى استهداف سيارات إسعاف. بعد ستة أسابيع من العدوان، تمّ تدمير القطاع الصحي في غزّة، مع خروج أكثر من 25 مستشفى من أصل 35 من الخدمة و52 من أصل 72 عيادة رعاية صحية أولية. وسقط حوالي 200 شهيد من الكوادر الصحية، و36 من الدفاع المدني، إلى جانب إصابة أكثر من 200 جريح من الكوادر الصحية، كما تم الهجوم على أكثر من 60 مركبة إسعاف، تضررت 55 منها وخرجت عن الخدمة. وليست المرة الأولى التي تستهدف فيها إسرائيل هذا القطاع الذي شكّل أحد أهداف حملاتها العسكرية السابقة.

رغم الادعاءات الإسرائيلية بأنّ المستشفيات باتت جزءا من المنشآت العسكرية لحماس، من الصعب فهم هذا الإصرار على الهجوم عليها، خاصة في لحظة يتآكل فيها الرأي العام الداعم لإسرائيل ومعه «الوقت» المتاح لجيش الاحتلال لإتمام عملياته. فتتصرّف الحكومات الغربية مع إسرائيل وكأنّها «تنتقم»، تدمّر عشوائياً القطاع بهدف ردّ بعض الاعتبار لهيبتها بعد عملية «طوفان الأقصى». فهناك قلق متزايد عند الحكومات الغربية بأنّه ليس لدى إسرائيل خطة لما بعد العدوان، أو حتى أهداف واقعية لهذه الحملة العسكرية. فكأنّ العالم قبل بفترة زمنية سيحكمها الانتقام الإسرائيلي المجنون، تاركًا لسلطات الاحتلال فعل ما تشاء، قبل الاضطرار إلى تحديد أهداف أكثر تواضعاً. 

لكن بعكس هذه «الآمال الغربية» بعقلنة ممكنة عند القيادات الإسرائيلية، هناك خطة، قد يستبعدها البعض لكونها «مجنونة»، وهي خطة تهجير القطاع أو جزء كبير منه من الفلسطينيين. للمفارقة، كتب بتسلإيل سموتريش منذ سنوات عن خطة ترحيل الفلسطينيين، بدأها مع تعريف ألبرت أينشتين عن «الجنون»: «الجنون هو أن تفعل ذات الشيء مرةً بعد أخرى وتتوقع نتيجةً مختلفةً»، معتبرًا أن البحث عن سلام هو «الجنون» بعينه.فاستهداف القطاع الصحي يأتي بالتوازي مع استهداف منشآت حيوية أخرى، من المدارس والأفران إلى مخيمات اللاجئين مرورًا بالبنية التحتية للقطاع. الهدف من وراء هذا التدمير المنهجي ليس عسكريًا، ولا يهدف فقط إلى إضعاف قدرة الصمود الحالية، بل لا يفهم إلّا كمحاولة لتحويل القطاع إلى منطقة غير قابلة للعيش، كمدخل لتهجيره. ألمْ يصرّح المتحدّث بإسم جيش الاحتلال في بداية العدوان أن الأولية هي للدمار وليس لدقّة الضربات؟ 

من أجل تحقيق هذا الهدف «المجنون»، لا تمانع دولة الاحتلال فقدان بعض رصيدها الدولي. فالمستقبل سيقرَّر على أرض الواقع، وليس على وسائل التواصل الاجتماعي.


تطرّف معلَن أو إجماع خفيّ

ليس من الضروري استنباط معالم الخطة من المجريات العسكرية. فالخطة معلنة، وإن كانت على لسان «الصقور» الذين يشكّلون حلفاء نتنياهو «المحرِجين». فمن وزير الزراعة الذي افتخر بطرح «نكبة غزة» إلى وزير التراث الذي اعترف باحتمال استعمال القنبلة النوويّة، مرورًا بتصاريح أخرى تطالب بتدمير وتهجير القطاع، هناك دلالات كافية لاتجاه العمليات العسكرية. يمكن اعتبار تلك الأصوات متطرفة، لكنّها في تطرفها نجحت في دفع الإجماع السياسي الإسرائيلي نحو حل الإبادة. 

قد يكون وزير المال بتسلإيل سموتريش من أكثر هذه الأصوات تناسقًا برؤيته لمستقبل القطاع. فدعا إلى ما أسماه «حلّاً إنسانيّاً» قوامُه «الهجرة الطوعيّة» لأهالي غزّة من القطاع إلى دول العالم. وكان سموتريش قد طرح خطة مشابهة، منذ ستة أعوام، سماها «الحل النهائي» خيّر فيها الفلسطينيين بين التخلي عن تطلّعاتهم الوطنية والبقاء بأرضهم كمقيمين من درجة ثانية أو الرحيل إلى الخارج. أمّا من يقاوم، فيُقتَل. 

باتت خطة سموتريش التي اعتُبرت آنذاك «مجنونة» و«متطرفة» واقعًا ملموسًا في قطاع غزة اليوم. وهذه الرؤية «المتطرفة» لحل المسألة الفلسطينية أصبحت اليوم أشبه بالموقف الجامع للطبقة السياسية الإسرائيلية. فنشر النائبان الإسرائيليّان داني دانون (حزب الليكود) ورام بن باراك (حزب المعارضة «هناك مستقبل») مقالًا في بداية الأسبوع في صحيفة «وول ستريت جورنال» تحدّثا فيه عن ضرورة استقبال الدول الغربية للّاجئين من غزة، أسوةً بما فعلتْه مع ملايين اللاجئين من دول أخرى. يأتي اقتراح الدول الغربية كدول لجوء بعد سقوط خيار سيناء في بداية العدوان.

لم تنجح إسرائيل بتصوير نفسها كضحية، لكنّها نجحت بتقديم نفسها كاستثناء في العالم، يحقّ له الافتخار بإبادة شعب من دون أي اعتراض. إسرائيل باتت الدولة الوحيدة اليوم التي يحق لها تدمير مستشفى على رؤوس أطفال خدّج، وكل ما عليها تقديمه كتفسير هو رزنامة أيام الأسبوع. هذا ما نجحت به، وهذا مدخل طرحها «المجنون» لكن الواقعي بترحيل شعب عن أرضه.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
ناشطون إثيوبيّون: محمد بن زايد شريك في الإبادة
إصابة عناصر في اليونيفيل باستهداف سيّارة في صيدا
الكنيست الإسرائيلي يقرّ ترحيل عائلات منفّذي العمليّات لمدّة 20 عاماً
إسرائيل تدمّر مبنى المنشية الأثري في بعلبك
جماهير «باريس سان جيرمان»: الحريّة لفلسطين
مطار بيروت يعمل بشكل طبيعي