الابتزاز الرسمي بعد أول مليار
حصّل النظام اللبناني مليار يورو جديدة من المفوّضية الأوروبية، بعد الحملة الأخيرة من التجييش الإعلامي ضد اللاجئين السوريين. نجحت سياسة الابتزاز بتحقيق أوّل ربح مادّي للنظام الذي وجد في عملية «تسليع» اللجوء السوري، مصدرًا جديدًا لاقتصاده الرَيعي المنهار. فبات للاقتصاد اللبناني سلعةً جديدة لتصديرها، وهي التهديد بتصدير اللجوء إلى أوروبا.
نجح الابتزاز بعد حملة من العنصرية في الشارع، وأصبحت اليوم سياسة رسمية. فتح رئيس المجلس النيابي نبيه برّي أبواب البرلمان، المقفل أمام جلسات انتخاب الرئيس، ليقوم عدد من النواب باستعراضات إعلامية، لم تؤثّر في التوصيات النهائيّة المتّفق عليها أساسًا بين الكتل قبل عقد الجلسة. الكثير من النوّاب، وعلى رأسهم نائب رئيس المجلس الياس أبو صعب، «لم يفهموا» نتائج التصويت النهائي الذي جرى بظلّ حالة من الفوضى العارمة. لم يكن انتظام التصويت مهمًّا، طالما النتيجة متّفق عليها.
كان هدف الجلسة تغطية رئيس الحكومة بموقف نيابي جامع. تمّ فيها التذكير بموقف لبنان الرافض لأن يكون بلد لجوء، وبوجوب العمل بلجنة حكومية موجودة أصلًا، لجدولة عودة اللاجئين بالاتفاق مع النظام السوري. كما تطابقت توصيات المجلس مع شعارات الحكومة، بخصوص مطالبة المجتمع الدولي بتقديم المساعدات للبنان لضبط الحدود البرية، ودعوة الجهات المانحة لتقديم المساعدات للاجئين للعودة إلى بلادهم «ومن خلال الدولة اللبنانية».
هكذا، كانت الجلسة النيابية مجرّد فلكلور برلماني أراده رئيس المجلس، بالاتّفاق مع رئيس الحكومة، لتتحوّل سياسة الابتزاز إلى سياسة رسمية.
تعميم العنصرية من أجل الابتزاز
حول هذه السياسة الرسمية توجد حملة عنصرية: مناشير ليلية، تظاهرات «عفوية»، إجراءات إدارية، مداهمات وتوقيفات قام بها جهاز الأمن العام اللبناني. وعلى هامش هذه الأحداث، استعرضت الدولة اللبنانية نجاحها بتنظيم «قافلة عودة طوعية» قوامها بضعة مئات من اللاجئين. تتسابق القوى اللبنانية على اختراع الحلول لتلك الأزمة، فطرح نوّاب القوّات اللبنانيّة إصدار المجلس النيابي توصية بترحيل النازحين السوريين فوراً.
تدرك السلطات اللبنانية جيّدًا عبثيّة إجراءاتها الإدارية بحكم التجربة السابقة. فالفوضى التي تحكم سوق العمل اللبناني، وتفشّي الاقتصاد غير الرسمي وغير المنظّم، يحولان دون أي تنظيم مستدام لعمل المؤسّسات التجارية. والمؤسّسات والمحالّ التي داهمها الأمن العام، عادت لتزاول نشاطها الطبيعي بعد ساعات من انتهاء المداهمات، كما أظهرت مقاطع الفيديو المتداولة. أمّا انفلات الحدود الشمالية والشرقية، فيجعلان أي عودة طوعيّة مجرّد استعراض إعلامي، طالما أن باب العودة إلى لبنان مفتوحٌ على مصراعيه.
ما خدمته كل هذه الاستعراضات والحملات، كان خلق المناخ المحتقن تجاه اللاجئين، للوصول إلى أهداف الحملة الأساسية، أي تقوية قدرة لبنان الابتزازية.
نصرالله وحل الاتجار بالبشر
قبل الجلسة وبعد المليار، جاء خطاب نصرالله الأخير، والذي أراد من خلاله العودة من فلسطين إلى الداخل اللبناني، من باب المشاركة بابتزاز الغرب باللجوء السوري، في سبيل زيادة المساعدات الممنوحة للبنان أو رفع العقوبات عن النظام السوري.
كالعادة، طرح نصرالله حلًّا ميزته الأساسية العنف: فتح الباب أمام تدفّق السوريين باتجاه البحر. «هذا البحر أمامكم، فاتّخذوه سفناً». شكّلت دعوة غض النظر عن شبكات الاتجار بالبشر لابتزاز الأوروبيين وصفة كارثية، جرّبتها العديد من دول المنطقة، مثل تونس وتركيا. وكانت النتيجة التي أفضت إليها هذه التجارب ازدحام هذه البلاد بالمهاجرين الأجانب وتداخل شبكات الاتجار بالبشر بشبكات الاتجار بالمخدّرات والابتزاز وسائر أشكال الأنشطة غير القانونية. نتيجة تلك التجارب كانت واحدة: موت المهاجرين غرقًا أو عطشًا في وسط البحر، أو في يدّ شبكات الاستعباد والاستغلال الجنسي على طرق الهجرة أو في بلدان المقصد.
ما أراده نصر الله من طرحه لم يكن معالجة قضيّة اللجوء. هدفه هو زيادة المساعدات التي يستطيع لبنان أن يحصدها جرّاء لعبة الابتزاز هذه. بدل المليار يورو، يمكن أن يأتي الأوروبيون ليعرضوا 10 أو 20 أو 30 ملياراً، كما قال نصر الله في خطابه حرفياً.
الابتزاز من أجل النظام السوري
لم يكن نصرالله يسمسر من أجل المليارات فقط، بل أيضًا من أجل النظام السوري. فحل قضية اللاجئين يمرّ أولًا بالطلب من الغرب رفع العقوبات عن النظام السوري، وفق سقف المطالب السياسية التي قدّمها نصرالله في الخطاب. هكذا، يصبح اللاجئ سلعة على طاولة مفاوضات سياسية، ويصبح التجييش العنصري مجرّد وقود لمطالب بعيدة عن حلّ أزمة اللجوء نفسها.
دخل محور الممانعة في لعبة الابتزاز. قبل نصرالله، كان وزير الخارجيّة اللبناني عبدالله بو حبيب قد راسل نظيره السوري، معربًا عن اقتناع لبنان بأهمية دعوة الجمهورية العربية السورية للمشاركة في مؤتمر بروكسيل باعتبارها الدولة الأولى المعنية بأهداف المؤتمر ومخرجاته. وعلى هامش تلك الأزمة، رأى بو حبيب الفرصة مناسبة للمطالبة برفع العقوبات عن النظام السوري، بوصفها السبب الأساسي لأزمة النزوح. كما حقّق المحور نقطة إضافية مع الاتّصال المباشر بين رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي ونظيره السوري، بعدما تحاشى ميقاتي طوال الفترة الماضية الدخول في دائرة التواصل المباشر مع النظام.
من المفيد هنا التذكير أنّ أزمة اللجوء هي من صنيعة هذا المحور. فحزب الله هو الذي يسيطر، مع ميليشيات أخرى موالية لإيران، على مساحات واسعة من الجغرافيا السورية. وهذه الميليشيات كانت مسؤولة مع نظام الأسد عن أزمة تغيير ديمغرافي لم تجد طريقها للحل بعد. بهذا المعنى، وبعد تهجير السوريين من جانب النظام والميليشيات الحليفة، يقدّم نصر الله وصفته القائمة على رميهم باتّجاه البحر، بدل فتح المجال أمام عودتهم إلى القرى والمدن التي أُخرجوا منها.
محاولة فكّ العزلة السياسية عن النظام السوري، والمطالبة الرسمية برفع العقوبات عنه، مع رزمة مساعدات جديدة للحكومة اللبنانية، هي كل ما حصّله لبنان من حفلة التهجّم على اللاجئين السوريين. ويأتي هذا بديلًا عن الحلول الفعليّة المطلوبة لقضيّة اللاجئين.
ثمّة حلول تبدأ بانسحاب الميليشيات الأجنبية من الأراضي السوريّة، ووقف عمليّة التهجير والتغيير الديمغرافي المستمرّة حتّى اللحظة، والتي يقوم بها أطراف عدّة، من بينها قوى لبنانية كحزب الله.وجزء من هذه الحلول، يمرّ بتقديم الضمانات الأمنية والسياسية للاجئين الذين اختاروا العودة؛ ضمانات حول أمان هذه العودة وعدم التعرّض لهم بإجراءات انتقامية. فتقارير المنظّمات الدولية تحفل بالمعطيات التي تؤكّد اعتقال النظام السوري للاجئين العائدين إلى بلدهم عام 2023، بهدف ردع عودة المزيد منهم. باختصار، لا يوجد ما يشير إلى امتلاك النظام السوري أي مصلحة في عودة هؤلاء اللاجئين. بل وثمّة ما يوحي بأن النظام يريد مقايضة هذه العودة بملفّات أخرى، مثل مساعدات إعادة الإعمار واستعادة السيطرة على أجزاء إضافيّة من الأراضي السوريّة ورفع العقوبات عنه.
أما على المستوى المحلّي، فالحلول المطلوبة للاستغلال المجحف لتدفّق العمالة الأجنبية، ومنها السورية، معروفة منذ التسعينات. وهي تبدأ بضبط الحدود البرّية وتقليص نطاق الاقتصاد غير الرسمي، وتنظيم سوق العمل. لكن مرّة أخرى، تتعارض طبيعة هذه الحلول مع مصالح عميقة مرتبطة بالنخب السياسيّة والماليّة المهيمنة في البلاد.
بدل هذه الحلول، قرّر القيّمون على الوضع تسليع اللجوء السوري من أجل مكاسب اقتصادية وسياسية، ثمنها عنف ضدّ السوريين والسوريات واستحالة ابتكار حلًّا لهذه المسألة.