كنّا في مليتا، أبي وأنا، نزور متحف حزب الله الحربي عندما رأيت شخصاً يقترب من أبي ببطء وينظر إليه مستغربًا. انتبه أبي له وصرخ بفرحٍ أبو محمد! تعانقا عناقاً حارّاً، وشدّا بعضهما إلى زاوية بعيدة عن الناس وتحدّثا بدفء لبضع دقائق قبل أن يرجع أبي لعندي. كنت قد خمّنتُ مَن يكون هذا الأبو محمد وكيف يعرف أبي. فهذه ليست المرة الأولى التي نلتقي بها بأحد أعضاء الحزب ممّن كان من رفاق أبي القدامى في النضال.
لطالما استغربت لقاءات كهذه وما تعنيها. فكيف يمكن لرجال عملوا مع فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية أن يكونوا مع حزب الله الآن؟ الفرق الأيديولوجي شاسع بين الحزبين. المخيّلة السياسية التي تنظم الروابط بين الداخل والخارج في عملية التحرير في تضادّ جذري. لعلّ التضاد لم يعد مهمًا اليوم، خصوصًا وأنّ فتح ومنظمة التحرير بعد اتفاقيات أوسلو لا تشبهان نفسهما أو النضال الفلسطيني الذي شكّل جزءًا من تاريخ لبنان المقاوم للاحتلال الإسرائيلي.
ما يهمّني في هذا المقال هو حال تنظيم فتح بُعَيد خروجها من لبنان سنة 1982. انبثقت عن خسارة فتح عاطفتان عند الرجال اللبنانيين المنتسبين للكفاح المسلح ضد اسرائيل، أمثال أبي وأبو محمد: الهزيمة والنصر.
خسارة النضال وانتهاؤه تحوّلا إلى إرادة قوة عند مَن هلّل بالنصر، بينما رجع المنهزمون إلى منازلهم ومارسوا ما تبقى من سلطتهم على أفراد عائلاتهم، لا سيّما النساء منهم.
كما هو معروف، لم يكن الفلسطينيون وحدهم على خطوط الجبهة ضد اسرائيل في لبنان. كان معهم مجموعات يسارية أخرى تحارب إلى جانبهم. انضمّ لبنانيون من شتى الطوائف إلى صفوف هذه الأحزاب، وإلى فتح والجبهة الشعبية وغيرها. وكان أبي من أحد هؤلاء المقاتلين، وبنى صدقات كثيرة ضمن صفوف المقاومين، كنّا نزورهم في ضيعهم في جباع والرميش وسعدنايل ودير الأحمر والكورة وإهدن وصور وغيرها. عندما خرج الفلسطينيون، بقي المحاربون اللبنانيون في البلد. المهزومون:
- منهم من هاجر مع عائلته بحثاً عن حياة طبيعية، ومنهم من بقي في البلد خلال الحرب وجاهد كي يعيد إنتاج نفسه كمدني.
- أما المنتمون إلى التنظيمات الفلسطينية من شيعة الجنوب، فابتعد العديد منهم عن القضية وانضموا إلى حزب جديد، قدّم نفسه كرافض للهزيمة وحامل للقضية الشيعية، وإن كان في نفس الوقت، يرطن بالقضية الفلسطينية في كل مناسبة بينما كان يذبح حزب شيعي آخر المخيمات الفلسطينية في منتصف الثمانينات.
بين الهزيمة والنصر، تشكّلت المخيلة السياسية اليسارية/الشيعية في الفترة التي تلت الاجتياح الاسرائيلي في تعبيرات ذكورية للخسارة والتوقف عن النضال.
رجال مهزومون
كان الشعور بالهزيمة الذي تربّيت عليه يتمحور حول نقطتين:
الأولى كانت ترجمة الهزيمة في أداء ذكورة لم يعد لديها سلطة إلا داخل البيت. أمّا الثانية، فكان ضغط الإشكالية التحريرية التي يطرحها الحزب أمام مقاتلين لبنانيين منتسبين إلى منظمة التحرير.
أعاين النقطتين من خلال الصراع الجندري كي أتأمل في الوضع السياسي العام في سنة 1982: الرجال هم من قرّر وحارب وتفاوض وانهزم أو انتصر. عندما عاد المقاتلون إلى منازلهم، مهزومين، كان للذكورية جانب داخلي في الحيز الخاص، وآخر خارجي في الحيز العام. مع عودة الرجال إلى منازلهم، كانت العلاقات الجندرية قد تطورت، ودخلت النساء في صراع منزلي يتحدّى السلطة الأبوية على الإناث والأولاد. وجاءت هذه العودة مع انهيار اقتصادي رافق الحرب الأهلية وكرّس الهزيمة كشعور مرافق لانسداد الأفق النضالي عند الرجال. أما عند النساء، فلم ينتج هذا الوضع شعوراً بالهزيمة، خصوصاً عند اللواتي ساهمن في تطوير فكر ينتقد جمود الأطر الجندرية المفروضة على أفراد العائلة.
رجال منتصرون
أما عند الرجال الذين رفضوا التعامل مع الخسارة وقرّروا البقاء منتصرين، فكمّلوا الحرب إلى جانب حزب أكثر حزمًا في أبويّته الصارمة. استحوذ حزب الله على السلطة وهيمن على علاقة الفرد بجسمه من خلال فرض خصال جندرية متشدّدة ورافضة للإرتجالات الفردية في أداءات مغايرة للثنائيات الجندرية المفروضة. على الصعيد العام، خرجت المنظمة من بيروت وتيتّم اليسار اللبناني، هذا قبل أن يأتي الحزب ويخلّص عليه من خلال سلسلة اغتيالات طالت قادة ومفكرين كمهدي عامل وحسين مروة، محتكرًا بعد ذلك فكرة المقاومة.
لكنّ فكرة المقاومة اختلفت كلياً بين مفهوم الحزب ومفهوم من تبقى في لبنان من مقاتلي فتح. فكان يعتقد أبناء فتح بضرورة هزيمة العدو أيديولوجياً، عبر تنظيم صفوف الشعب (ما يسميه الفتحاويون بالجماهير)، رافضين التمايز الطائفي الذي شكّل سمة العدو الواضحة. فوفق المقاومة، كانت إقامة دولة (فلسطينية) تعني أن تحفظ للمواطنين حقوقهم الشرعية على أساس العدل والمساواة دون تمييز بسبب العنصر أو الدين أو العقيدة وتكون القدس عاصمة لها. النظام الداخلي لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، المادة ١٣. ومع خروج فتح من لبنان، خرجت الأفكار المناهضة للطائفية من الحيز السياسي العام ورجع الرجال منهزمين إلى البيوت.
المذهل في كل هذا، كان عثوري الشهر الماضي على أرشيف فلسطيني، يوثّق تلك المرحلة. فتظهر الوفرة في استعمال كلمة النصر في الجرائد الفلسطينية، حتّى بعد مجزرة صبرا وشاتيلا. فالكلام عن انتصار هو وطيد العلاقة برجولةٍ مرتكزة على الشرف والنخوة، رجولةٍ تستصعب العيش من دونهما. وبالرغم من فداحة الخسارة، لا يتبدل الكلام، ولا حتى بعد الجثث المتكدّسة. هناك من بقي يتبجح بالانتصار، مع أن هذا النصر المزعوم لم يحرّرنا من طاغوت العدو، كما أنّه حجب عن عيوننا أزمتنا السياسية.
يُترجَم هذا الانفصام عن الواقع لدى الرجال المنهزمين في تخبّطهم في فرض السلطة داخل المنازل. أما في الحيز العام، فيصبح الإصرار على النصر بالرغم من الهزيمة ذريعةً لفرض الهيمنة على المنهزمين باسم المقاومة والتحرير.
أمّا رجال فتح الذين انخرطوا في صفوف حزب الله، فأصبحوا جنوداً في حزب هدفه الأساسي انتزاع سلطة، حزب ذي صفة مذهبية تتحكّم في البلد برمّته. فبدل أن يستكمل الحزب مفهوم المقاوم الجامع، شكّل بخطوطه العريضة حزبًا يتماهى مع المنهجية الصهيونية في خلق هوية سياسية فئوية إقصائية، تخوّن من اختلف معها. وبعد تفجير السفارة الأميركية في بيروت سنة 1983، قدّم الحزب نفسه على أنه الوريث الوحيد لانتصارات فتح في لبنان. حاز الحزب على النصر وأمعن من خلاله في طمس حق الآخرين بالمشاركة في الصراع. أما جندرياً، فنرى هذا النصر المنفلت من عقاله وتنكيله بالمرأة اليوم واضحاً في العنف الممارس من قبل أرباب حزب الله على ثورة إيران النسويّة، لمجرّد أن النساء الإيرانيات طالبن بحقهن في أن يمتلكن حرية التصرف بأجسادهن.
من ذهب إلى مليتا وشاهد فيلم التحرير المعرِّف بتاريخ الحزب في المقاومة ينتبه كيف يجيّر الحزب انتصارات فتح في الصراع مع اسرائيل خلال فترة السبعينيات وينسبها له حتى ولو أنه لم يكن قد وُجد بعد كحزب. انتصر الحزب في الوصول إلى السلطة وجعل المقاومة مبرّراً لاحتكاره السلاح وليس أداةً تحريرية تحلم بدحر الصهيونية أيديولوجياً وعسكريًا معاً.
أما المنهزمون، فطوبى لهم على القبول بالواقع. أتاحت هزيمتهم لنا نحن أبناء بيئة الثورة الفلسطينية في لبنان أن نتحرّر من ذكوريتهم وأن نفتخر بانفتاحهم السياسي نحو الآخرين كضرورة لنواصل التحرّر والتحرير. أما التوظيف السياسي للخسارة خارج ثنائية الهزيمة والنصر، فيبقى قيد التفكير. فالنساء إلى يومنا منزوعات السلطة، لا كلمة فعلية لهنّ في السياسة. يكمن التحدّي الذي تواجهه النسويات بعد انخراطهنّ بالشأن العام في زمن الثورات، في إيجاد طقوس مغايرة تمكّنهنّ من التعامل مع الخسارة وتوظيفها سياسياً. فما زالت الخسارة اليوم أسيرة ثنائية الهزيمة والنصر، والنخوة والشرف، التي تتحكم بالحياة السياسية وتبقيها حكراً على الرجال.