أنا صندوق اقتراع، نقلوني حول بلدان العالم.
من دون جواز سفر، وضعوني في طائرة. حرسوني. راقبوني. فتّشوني. أقفلوني، ثم بدأوا ملئي بالمظاريف. على مدى ساعات وضعوا فيّ المظاريف. بانتظام وبأسلوب اعتباطي، ملأوني بالمظاريف. كانت الأوراق تهبط إلى بطني رغماً عني. لم يجرؤ أحد على الاقتراب مني سوى شخص واحد، قيل إنه حارسي الذي يجب أن يلازمني. لا أعرف إن وضع فيّ أوراقاً إضافية أو حجب أخرى.
أنا مجرّد صندوق اقتراع، أحمل ما يوضع داخلي.
أنا صندوق اقتراع، صادروا خصوصيّتي.
دقّت الساعة، فتحوني. قلبوني. أفرغوني. فتّشوني. ثم أعادوا ملئي بالمظاريف. حرسوني. راقبوني. زرعوا فيّ جهاز تعقّب. وضعوا حارساً عليّ ومعه كاميرا مراقبة. نقلوني إلى غرفة معتمة أخرى قالوا إنها مبنى قنصلية. سمعت صوتاً كأني أعرفه، كأنه صوت فرح برّي، لكن لست متيقّناً من ذلك. سهر الحارس معي. وسمعت شخيره طوال الليل بينما ضوء الكاميرا يومض ثم يعمل ثم يختفي. لا أعرف إن دسّوا فيّ المزيد من الأوراق لأني كنت معصوب العينين ومثقلاً من التعب. سفّروني.
أنا مجرّد صندوق اقتراع، لا حيلة لي.
أنا صندوق اقتراع، أعادوني إلى بيروت رغماً عني.
هبطت الطائرة، أنزلوني منها وأدخلوني البلاد من دون جواز سفر أيضاً. سلّموني إلى جهاز أمني. رجوت الله ألا يكون الجهاز نفسه المسؤول عن تعذيب زياد عيتاني وفبركة الملفات والصمت عن نيترات المرفأ. في المطار، اجتمعت بزملاء لي، أتوا من مناطق مختلفة. حالنا جميعاً متشابهة. عشنا التجربة نفسها، وكنّا جميعنا مبنّجين في مبنى قنصلية أو سفارة. سمعنا أصواتاً نعرفها، لقناصل وسفراء المنظومة الحاكمة.
أنا مجرّد صندوق اقتراع، منزوع الحقوق.
أنا صندوق اقتراع، خبّأوني مع زملائي في مصرف لبنان.
في سيارات رباعية الدفع، نقلوني ومن معي من الزملاء والضحايا إلى مصرف لبنان. وُضِعنا، هنا، في المقرّ، حيث يختفي المال والذهب، وتُوقَّع موازنات ومساعدات وهبات للمصارف. هنا، حيث أشرف رياض سلامة على تضييع أموال اللبنانيين، إذ استثمر أموالهم في مزرعة صيصان ملوّنة ليبيعهم على عيد الفصح. لكن الصيصان ماتت قبل الموعد. فأفلس صاحب المشروع، وظلّ المستثمر مستمرّاً في مشاريعه المتهالكة. يقبض اليوم عليّ وعلى زملائي. هو مؤتمن علينا، بينما لا يمكن ائتمانه حتى على تَرِكَة نملة.
أنا صندوق اقتراع، سمعت كلّ ما يجري حولي.
سمعتُ همسَ المتواجدين حولي وما تناقلوه من مقاطع فيديو. سمعتُ عبرهم رئيساً يقول للبنانيين أن يصمتوا. شعرت بأنه Déjà vu، وتابعت استراقّ السمع. سمعت أيضاً أنصار أحزاب بالية وميليشيات يقولون إنّ برلين باتت الشياح. وإنّ الرئيس نبيه بري يبقى «جديداً على طول»، لا يرخي على اللبس ولا يشدّ على الغسيل. سمعت كيف يعرض آخرون على مندوبين في ملبورن منقوشة جبنة. وفي فرنسا «بان أو شوكولا» من عند «بول». وسمعت ما أشيع عن رشوة تقاضتها إحدى المسؤولات لتمرير تصويت بعض الناخبين غير المسجّلين. سمعت أيضاً عن خطف أحد الناشطين في الغابون، من دون أي تحرّك للدبلوماسيّين اللبنانيّين ولا لأولياء نعمتهم من السياسيين.
أنا صندوق اقتراع، يفترض أن أحمل صوت اللبنانيّين للتغيير.
بعضهم ملأني بتغيير فعلي، بخيارات مختلفة. برغبة الثأر من مجزرة 4 آب. بالسعي إلى الإطاحة بزمرة حاكمة. وبقصاص على الدماء التي أسيلت في ساحات الاعتصام. بمعاقبة فاسدين ومرتزقة وعصابة. فحملتُ أصواتهم بكلّ ترحاب. لكن لا أعرف إن وصلتْ فعلاً هذه الأصوات إلى بيروت. بعض آخر ملأني بالخراء. خراء فعلي، ملوّن ومتنوّع. خراء أصفر، أحمر، أخضر، ليموني، زيتي، فستقي، والكثير من الألوان. لكن رائحته واحدة، رائحة الخراء خراء. خراء السلطة، خراء الميليشيات، خراء الفساد، خراء الوراثة السياسية، خراء الطائفية، خراء أدوات الخارج، خراء المصارف ومجالس إدارتها.