- يعني الرحيل؟
- شو بعد في غير الرحيل؟ شو بعد في؟ مواسم الزرع منتّفِة، وإيّامنا عم تنطفي.
239 ٪
زيادة نسبة المقترعين في الخارج بين دورة 2018 ودورة 2022.
عام 2018، اقترع 46,799 لبنانيّاً في الخارج، مقابل 1,814,404 في الداخل. يعني أنّ صوت الخارج كان 2.6٪ من صوت الداخل.
عام 2022، اقترع قُرابة 128,000 لبناني في الخارج. لا نعرف بعد نسبة التصويت في الداخل، لكن نعلم أنّ عدد ناخبي الداخل لم يزِد بشيءٍ يُذكَر. ولو افترضنا أنّ عدد مُقترعي الداخل جاء عام 2022 كعدد عام 2018، يكون حجم صوت الخارج 7.2٪ من صوت الداخل، أي أنّه زاد ثلاثة أضعاف في أربعة أعوام.
لا أضرب بالرمل ولا أفهم بالتنجيم، لكن أُقدّر أنّه في الدورة المقبلة، سيُعادل صوت الخارج أكثر من 10٪ من صوت الداخل، برياحة، وهكذا دواليك. دورتان، ثلاث دورات، وستصل النسبة إلى الربع، إلى الثلث، إلى النهاية.
- ليش ما زيّنتوا؟
- مين بدّه يزيّن؟
- الناس.
- أي ناس؟
- وين الجماهير تستقبل الملكة؟ ما سمعوا الأوامر؟
- ما في حدا يسمع.
- مش عم افهم…
- الناس هربوا وهاجروا، تركوا بيوتهم.
طبعاً، لن تصل النسبة إلى 100٪، لن يُصبح صوت الخارج أثقل من صوت الداخل. فالنظام الذي يحرص على تهجيرنا، يحرص بالمقابل على ضمان قاعدة ماديّة له في الداخل، يربط بها المغتربين. شيء من قبيل تهجير أفراد من العائلات، وأسر «العائلة» في البلد، ليعود ويمتصّ بواسطتهم أموالاً أُنتجَت في الخارج.
بذلك، يجد النظام ضماناً لاستمرار دخله السنويّ الذي يتّكل على تحويلات المغتربين، لا بل يضمن ارتفاع هذا الدخل مع تقادم الزمن، وهو رقمٌ يدور اليوم بفلك الـ10 مليار دولار سنوياً. حلوين.
تتطلّب هذه الحسبة إجراءات دقيقة، ومعياراً دقيقاً من الإجرام والفشل واللامبالاة، وتعديلات على بنية مؤسّسات المجتمع، لرفع مستوى جهوزيّة الشباب للهجرة؛ مثلاً تعديلات في قطاع التعليم وتعزيز الجامعات الخاصة على حساب الجامعة اللبنانية. تلحق هذه التعديلات حسبة دقيقة، أسمَيتُها سابقاً الـ«ليبانيز إكويليبريوم» للبطالة والتهجير.
- ما حدا بيعرف كيف بتتفجّر المَي، أنا بعرف ثورات وإضرابات ومقاطعة السلطة. بس شعب يهاجر كلّه؟؟؟ ما بعرف…
- غلبوني يا جاد غلبوني. بدل ما يروح الملك راح الشعب. سكّروا عليّي المملكة وراحوا.
- […] يا مولانا ما بيصير هيك ملك بلا رعيّة.
- أنا صرت ملك المنفى، ملك البيوت الفاضية والساحات المهجورة. هَربوا، وانتصَروا.
من يهرب ينتصر. هكذا اعتقدنا للوهلة الأولى. كنّا على خطأ، إذ أنّ أسباب الهروب ليست واحدة، ولا تؤدّي جميعها إلى الانتصار. بعض المغتربين أصرّوا على نقل خيبتهم معهم في شنط السفر، خيبة الحرب الأهلية وتروما الحرب وتعقيداتها. خيبة القائد الربّاني الذي وعدنا بالخير، غير أنّ الخيرَ ما وُجد سوى خارج الحدود. فاجتازوا الحدود وراحوا يبرّرون له.
شاهدنا أمس التبريرات، وقد وصلت حدّ التناقض. فالأخت الفضيلة، مندوبة حركة أمل في ألمانيا، تقول من مركز الاقتراع في ألمانيا، أنّ التصويت لغير نبيه برّي سيسلّم البلد لأميركا وفرنسا، وألمانيا. وهي لا تُريد ذلك. والستّ الأخرى، التي صوّتت للتيّار لأنّها لا تريد للنازحين السوريّين أن يتوطّنوا في بلدها، فاتها أنّها بدورها مُوَطَّنة في بلاد الغير.
لا تناقض في أقوال هؤلاء، فهم لا يتبعون السياسة عقلانيّاً، بل تحت تأثير «لَوثة المشاعر». هو تناقض بالظاهر، لكن بالمضمون هو اتّساق تامّ يعكس البنية النفسية لجماهير أحزاب السلطة. جماهير بات يصحّ وصفها بـ«الجماهير الفاشية»، بالمعنى الدقيق للكلمة:
طبائع الجمهور الفاشيّ تتركّز بالفكر الغَيبّي، والشعور الدينيّ، والخضوع للمُثل المُجرَّدة والأخلاقيّة، والإيمان المُطلَق بالمَهمّة الإلٰهيّة للقائد- أو الفوهرر.
(وليام رايخ، سيكولوجيا الجماهير الفاشية، 1933)
- يا مولانا ما بيصير هيك ملك بلا رعيّة.
- أنا صرت ملك المنفى، ملك البيوت الفاضية والساحات المهجورة. هَربوا، وانتصَروا.
من يهرب ينتصر. هكذا اعتقدنا للوهلة الأولى. كنّا على خطأ، إذ أنّ أسباب الهروب ليست واحدة، ولا تؤدّي جميعها إلى الانتصار. فالمغتربون أجيال، وقد سافر معظمهم على دفعات وموجات، أهمّها موجتان: موجة الهجرة خلال الحرب الأهلية في لبنان، وموجة الهجرة خلال الانهيار المقصود، ما بعد 2019.
لا نقول هنا إنّ السياسة صراع أجيال، ولو أنّ في هذا القول شيئاً من الصحّة.
بتتبّع مشاهد أمس، وبتحليل الأرقام الآتية بعد أسبوع، وبجرد لوائح الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة في عدّة بلدان حول العالم، يُمكن أن نسحب تقديراً عنوانه أنّ الشباب باتوا أميَل إلى الخيارات اليسارية، أو على الأقل أميَل إلى الخيارات المُعارِضة للنُظم القائمة، لا سيّما وأنّهم من جهة، أكثر المتضرّرين منها، ومن جهة أخرى، أصحاب الطاقة الثوريّة الأكبر في المجتمع، وأصحاب الرغبة الأعلى في التغيير.
ولو أنّ لأحزاب السلطة قاعدة شبابيّة متينة، في الداخل كما في الخارج، فإنّ ذلك لا ينفي أنّ مشهد أمس الانتخابي كان مقسوماً بين فئتَين أساسيّتَين: شباب يخوضون الانتخابات للانتقام من السلطة، و«بومرز» يطبّعون معها ويجدّدون البَيعة لأحزابهم الحاكمة ويحدّدون مصائرنا، من الخارج.
ولا أقول الخمسينيّين، بل أستعمل لفظة «بومرز» عمداً، لأن في هذه اللفظة شيئاً من التدليل على البياخة. بياخة من يقيس المدّة الأصلح للحكم على مدّة حكم المماليك. بياخة من يمارس عنتريّاته في دولةٍ مزّق جواز سفره لتستقبله كلاجئ، وتعطيه حقوقاً كان يحلم بها في بلده. وبياخة من يريد أن ينقل الشيّاح إلى برلين.
يريد الجمهور الفاشي أن ينقل الشياح إلى برلين، وكرم الزيتون إلى سيدني، والبترون إلى مونتريال. لكنّه لا يفكّر البتّة بالاتجاه المعاكس. لا يفكّر أنّه كان للشياح أن تكون برلين، مثلاً، لولا أنّ… أو لولا الهاء…
- ليش فلّوا؟
- صار بدّك البيوت والأرض، تركولَك ياهم وراحوا.
- وشو نفع البيوت بلا ناس؟
- هلأ عرفت قيمة الناس؟ كانوا يروحوا رخاص عندك…
- اخرسي! أنا الملك السيّد وبإيدي الحياة والموت، وإنتِ الرعيّة وعليكي الطاعة.
وهكذا حصل، اختار الرعايا الطاعة، لكنّ بعض المواطنين اختار العكس.
في جميع الأحوال، هنا الواقع، هنا الجحيم، ولسنا في مسرحيّة للرحابنة، بل نحن المسرحيّة، مسرحيّة الانتخابات النيابيّة.
في جميع الأحوال، هنا الواقع، وناطورة المفاتيح قد تموت الأحد المقبل في رصاصةٍ طائشة، أو في إشكالٍ على أقلام الاقتراع، لكنّ الملك سيبقى ملك، لو حكم الكلّ أو حكم لا أحد.
الملك سيبقى ملك، وسيبقى يصيح على مزبلته ما شاء الله، أو حتّى بخلاف مشيئته.