منذ بدء ثورة تشرين، تُحاول طرابلس إعادة موضعة نفسها على الخريطة اللبنانية.
استطاعت المدينة كسر الصورة النمطية التي أُسقطت عليها بعدما قطع زعماؤها أنفاس أبنائها وعرّضوهم للفقر كي تصبح طرابلس جثّةً بين حياة وموت. أعلنت المدينة أنها لا تزال قيد الحياة، ونجحت بتقديم صورة جديدة تقطع مع الماضي البائس الذي لطالما لخّص أهلها إلى مجموعات متشدّدة دينيّاً او حتى إرهابية. عرضت المدينة نفسها بحلّة التنوع والاختلاف، وطالبت لبنان بردّ بعض الاعتبار إليها. أجاب لبنان بإعجاب، وهو الذي لطالما أدار ظهره إلى طرابلس، وتوّجها عروس الثورة.
قادت طرابلس الثورة لفترة، سواء من وراء الشاشات أو من خلال يوميات المدينة. بدأ لبنان باكتشاف طرابلس، فتهافت أهل بيروت للتعرّف إلى أهلها ومآكلها ولهجتها وأحيائها وتاريخها وفقرها. نُظّمت رحلاتٌ سياحيّةٌ ثوريّة، وأخرى استكشافيّة استشراقيّة، وكلّ مَن كرهها وكره أهلها يوماً وقع في غرامها بموازاة وقوعه في غرام الثورة. نام أهل طرابلس ليستفيقوا على مدينتهم وقد نالت إعجاب لبنان لانفتاحها وتقبُّل الآخر وحبّ الحياة.
هكذا وُلدَت رمزية طرابلس، وهكذا تحوّلت لعروس الثورة من داخل المدينة وخارجِها.
الإعلام، بدوره، غزا المدينة، وبدا وكأنّه يدخلها للمرّة الأولى. دخل إلى أحيائها الفقيرة، كحيّ التنك، وواكب برحلة استطلاعية توزيع إعاشات «سوبرماركت سبينيز» في أحيائها المنسية منذ عقود. عبّر بعض الإعلاميين والإعلاميات عن صدمتهم إذ اكتشفوا فقرها، وذرف بعضهم الدموع أمام الشاشات. لم تقتصر الاكتشافات تلك على الفقر، بل طالت أيضاً شخصيات المدينة. فتحوّل شبّانها وصغارها تدريجيّاً إلى أيقوناتٍ، من دي. جاي. ماضي إلى أبو العبد، ذاك الطفل الذي لا يزيد عمره عن العشر سنوات.
هكذا أصبحت طرابلس رمزاً، وهكذا نما خطاب «الفيتيشيزم» أو التصنيم.
هذا التحوّل الذي يطرأ على صورة المُدُن حين تثور، ليس صنيع الثورة اللبنانية وحسب. فما حدث في طرابلس سبق أن رأيناه في مدن سوريا التي خُلقت لها رمزية وصُنعت فيها أيقونات، كـعبد الباسط الساروت في حمص أو ابراهيم القاشوش في حماة أو أبطال يافطات كفرنبل. والأغلب أنّ طرابلس وجدت في مخيّلتها ما تستشهد به في صناعة الأبطال، بحكم موقعها الجغرافي وتاريخ علاقاتها مع سوريا والتقارب بين نسيجها الاجتماعي ونسيج المدن السورية. وبرغم انّ المقارنة بالثورة السورية لا تصحّ لعدّة أسباب، فإنّ اللافت هو أنّ الثورة السورية تقيم في مخيّلة الطرابلسي على نحو أقوى ممّا في سائر لبنان. لكنّ الفارق الأساسي هو أنّ المدن السورية دُمِّرت ولم تحظَ بفرصةٍ لإنتاج هوياتٍ جديدة بعد أيْقَنَتها.
يبقى السؤال عمّا إذا كانت طرابلس ستنجح، ليس فقط في تفكيك الصورة النمطية السابقة عن «طرابلس قندهار»، لكنْ أيضاً تلك الصورة الجديدة التي تدور حول «عروس الثورة»، والتي قد تضاعف، عن حسن نية، عزل المدينة، من خلال تجسيد رمزيّتها وتجميد وجودها، إمّا وراء الشاشات أو في العالم الافتراضي، كما جُمّدت أيقونات الثورة السورية في ذاكرتها. فلكي تحدّد طرابلس مصيرها، علينا ان نترك لها المساحة لتكون كما هي، بتنوُّعها وتناقضاتها، وكما تريد، بأحلامها وأساطيرها.