أمرّر الإبهام على الشاشة فترتفع الجثث إلى الأعلى. لكنّي أعرف أنّها موجودة في مكانٍ ما داخل الهاتف، وأنّه بإمكاني العودة إليها. أرتعب لأنّهم هنا، أصحابها الذين لا يمكنهم العودة إلى بيوتهم. وهم لا يعرفون ذلك. فقد ماتوا في الليل بينما كانوا يحاولون النوم. وقد يكونون في المنتصف تماماً، بين اليقظة والنوم، بين الأرض والسماء، بين عيوننا المعلّقة في الهواء وشاشة الهاتف. تنهمر الصور واللقطات وأصوات الاستغاثة، ولا مِظلّة.
تستقرّ الأصوات على الأرض. لكنّ الصفحة ترتفع إلى الأعلى. تختفي الأصوات في مكانٍ ما داخل الهاتف حيث يمكن الاحتفاظ بها، والاستماع إليها لاحقاً كوثائق. إلا أنّها للاستغاثة وهي معدّة في الأساس لدقائق قليلة في أفضل الحالات. بعد ذلك تصير فراغاً يسبح في فراغ. لا فائدة ولكنّي أتابع. سكرولينغ. كما لو أنّ هذا هو الحلّ الوحيد. فراغ جديد داخل الفراغات القديمة. انتظار أن يحدث شيء ما. انتظار الانتظار، وهكذا إلى ما لا نهاية.
أحمل طفلاً وأضعه في الثلاجة.
أحمل الكفن الأبيض بعيني وأنتبه إلى أنّه يبقى داخل الصورة. ثمّة رجال في الصورة التالية يحملون أكفاناً بيضاء صغيرة بدورهم. ولكنّهم أكثر حزناً منّي. ثمة نساء في الصورة التي تليها. يحملن حزن العالم. يمشين نحو الصحراء. أعرف أنّ الحياة على إنستغرام أسهل. ليس لأنّه يمكننا تفادي الطائرات وحسب، بل لأنّ الاعتراف بمشاعرنا هنا، يعني أن نلقيها تماماً في المكان المخصص للتخلص منها. تتراجع تدريجياً حتى تختفي تماماً بعد الليل. تبرد وتتبخر. تُزال من الـstory تلقائياً، فنضع في مكانها مشاعر جديدة. نهرول خلف مشاعرنا. ولا يمكننا الاحتفاظ بالحزن نفسه. ليس له أي قيمة فعلية. شيء مثل الهواء. يلسع ويذهب. مثل كفن أبيض. لا اسم له ولا وجه. منتهى القسوة أن تكتشف، بعد 24 ساعة، أنّ الذاكرة هي ذاكرة فقط لأنّها تنسى، وليس لأنّها تتذكر. تُنسى كأنها لم تكن. مثل محمود درويش. مثل أطفال لم أحفظ أسماءهم. مثل أكفان بيضاء تخرج من الثلاجة؛ تخرج وتذهب إلى الأرض.
الذكريات لا تذهب إلى الأعلى. عندما نغلق الهواتف مشبعين بالحزن، ننظر إلى فوق، أي إلى الاتجاه الخاطئ. ولا ندري كم يجب أن يبقى الوقت بيننا، وأين يذهب في النهاية.
للجدران أعصاب مثلنا لكنها تتحمل. لا تنهار فجأة. مع ذلك لا نتساوى نحن وإياها بعد القصف. نحن تعيش أصواتنا بعدنا قليلاً. الطائرات تأكل الأطفال. أين يذهبون بعد الموت؟ لا أعرف. لكن ليس إلى مكانٍ أفضل. لا جدوى من العزاء. يمكننا فقط أن نتفرج وننتظر. ربما يجب أن يتوقف كل هذا من تلقاء نفسه، فالطائرات لن تتوقف. الطيّارون يعودون إلى أسرّتهم بعد انتهاء الدوام، لكنهم يعودون في اليوم التالي. يغيّرون ملابسهم ويتجوّلون في الكوريدور وينظرون في المرايا ويستخدمون إنستغرام. يفعلون ما يفعله الضحايا في الحياة. يفتحون هواتفهم ويتفرّجون: غرف النوم التي لن يستيقظ منها أحد. الألعاب الباقية التي تحبّها وكالات الأنباء. أما نحن، فتُفرِغ الصور واللقطات حياتنا من قيمتها تماماً. تذكّرنا من نحن، كيف ترانا وكالات الأنباء. الطيارون سيعاودون القصف.
سكرولينغ. Add to story.
نقبل أن نسمّي كلّ هذا قصصاً. ونروي كمن «يخاف أن يرى». لا نصنع رأياً، بل نضع الذهول في الثلاجة. ونرفض التصديق أنّ هذا كله بلا جدوى. أصواتنا مساحة إعلانات. مقبرة ملوّنة عملاقة. إنستغرام. نغلق الثلاجة ونعتقد أنّه بإمكاننا التنصل من المشاعر. نتركها بأمان حيث وضعناها وننسحب.
نفعل ما نفعله لكي لا نكون شهوداً. مثل الجدران، ثمة صوت في أعصابنا يهمس بمرارة: لن يحدث معكم ما يحدث معهم. نتعاطف مع أنفسنا، لا معهم. فهم ماتوا. ونحن نعرف أنّ الطائرات قد تأتي إلينا أيضاً. يشعرنا الخوف بالخجل فننسحب.
من فوق، كيف تبدو عيون الخائفين في الظلام، قبل أن تنطفئ. فقط الطيّارون يشاهدون. لكنّهم يشربون القهوة في الصباح ويتظاهرون بأنهّم لم يروا شيئاً أمس. كلُّ يوم يأكل اليومَ الذي قبله. كل عين تُغلَق تصير ذاكرة. قد يندمون بعد فوات الأوان ويأتي مخرج ليصنع فيلماً تافهاً عنهم. ليس عن الأطفال. الأطفال ماتوا والذين يموتون يذهبون. إلى أين؟ ليس إلى مكان. يذهبون وحسب. أفكّر بالطيّارين. القتلة الاستثنائيين.
ما زالوا هناك. في مكانٍ ما فوقنا. تقترب الطائرة الممسوخة. كم يوجد مِن الطيارين؟ مئتان؟ ثلاثمئة؟ أربعمئة؟ كم طفلاً سيقتُلون اليوم؟ سيعودون غداً. أغلقوا هواتفكم. الطائرة تقترب. على إنستغرام ينتهي الأمر برفع الصفحة إلى الأعلى. بإيماءة للرأس. لكن هناك نعرف كيف ينتهي الأمر. كيف ينتهي؟ لا أعرف. ينتهي وحسب.