لكن بالتأكيد، عصرنا الحالي يفضّل الصورة على الموضوع، والنسخة على الأصل، والوهم على الواقع، والمظهر على الجوهر...
الجملة الأولى من كتاب «مجتمع المشهد» لغي دُبور، نقلاً عن فويرباخ.
أذكر كيف توقّف العرض بشكلٍ فجائي ومُريب وأذكر كيف تلعثَم أبو سليم، وأذكر سيارة الإسعاف التي اقتحمت العشاء القرَوي في قريَتي كفرصير وأقَلَّت «فهمان»، وأذكر أنّنا علمنا صباح اليوم التالي أنّه توفيَ نتيجة وعكةٍ صحيّة أصيب بها خلال العرض.
كان ذلك في 25 تموز 2011.
«فهمان»، وهو الممثّل محمود مبسوط، عضو فرقة «أبو سليم الطبل» المسرحيّة، توفيَ على المسرح. نهاية تراجيدية كلاسيكية، نالها رجلٌ كوميدي. إنّما التراجيديا لم تكن في موت «فهمان»، بل في حياته، شأنه شأن كل أعضاء الفرقة.
لسنين، كنا نشاهد أبو سليم في مقابلاتٍ متلفزة يشكو من إهمال الدولة له ولسائر الفنّانين المسنّين. ولا مَن يسمع. لسنين، عُزِلَت شخصيّات فنية وثقافية، لا لشيء، سوى لكونها لا تلبّي الثقافة التي يسعى النظام للترويج لها، لا تُبيّض صورته، ولا تلبّي «المشهد» الذي يتعطّش مجتمع الإستهلاك لاجتراره.
فجأةً، صارَ أبو سليم هو «المشهد».
طبعاً، لا لأنّ أبو سليم يمثّل قيمةً قائمةً بذاتها، بل لأنّ المسكين قد تجاوز التسعين بالتزامن مع وصول اللقاح إلى البلد، مع بقاء 3% فقط من الإنجازات غير المُنجَزة للحكومة.
هيّاها القَفشة! جيبولنا أبو سليم يتلقّح، وجيبوا الكاميرات. أو لأ، جيبوا الكاميرات، ارجعوا جيبوا أبو سليم يتلقّح. نحن بتهمنا الصورة.
طبعاً، لو شاءَت الصدف أن يكون أبو سليم ثاني مواطن يحصل على اللقاح، ما كان ليحظى بصورةٍ تذكارية، وما كان رئيس الحكومة ليربّت كتفه فخوراً. ولو كان أبو سليم قد أصيب– لا سمح الله– بالكورونا، لكان انتظر على الأرجح على رصيف مستشفى ما، أيضاً دون أن يحظى بصورةٍ تذكارية.
لكن الصورة أسعفتكَ، يا أبا سليم. أسعفتك لِكونك تلقّيت اللقاح بعناية واهتمام، فعَوَّضَت لك شيئاً من «التغطية الصحية الشاملة» التي تطالب بها. لكن انظر إلى الجانب المشرق، حصلتَ بالمقابل على «تغطية إعلامية شاملة»، عيش!
المهم. حين رأيتَ كل تلك الحشود حولك، هل قلقتَ، يا أبا سليم؟ هل فكّرتَ أنّنا لا نزال في زمن الكورونا، فكيف لهؤلاء أن يتجاهلوا أبسط قواعد التباعد الاجتماعي؟ هل عدَدتَ بلاط الغرفة لتقدير أمتارها المربّعة، ثم عدَدتَ الموجودين في الغرفة وحسبتَ احتمال انتقال العدوى؟ هل دار كل ذلك تحت شعركَ الأشيَب؟ لا تقلق، هاك الجواب: نحنا بتهمنا الصورة.
وإن تكلّم حاقدٌ على الحكومة وقال: بس صورة؟ سنُجيب: فشر! لو تشوف شو سبق الصورة. ضَوَّينا المطار وسجّادة حمرا ومؤتمر صحفي وكلمة ونوّاب ووزراء. يااااه، شو حلوين. وصوّرنا فيديو، مش بس صورة! وإن تكلّم حاقدٌ على هذا المقال وقال: ناطرهم عالصورة ت تحكي؟ سنُجيب: كلا، يا صَغيري. مش واقفة على صورة أبو سليم، هذا هو المنطق العام للنظام.
خذ موضوعاً آخر. أي موضوع.
أتذكُر مثلاً، أنّهم كانوا كلّهم يعلمون بوجود نيترات الأمونيوم في المرفأ، قبل الإنفجار؟ أتذكر ماذا فعل الرئيس، بعد الإنفجار؟ التقَط صورة.
عوضاً عن فعلِ معاينة محيط المرفأ وإنقاذ المدينة، قبل الإنفجار، التقطَ الرئيس صورةً تجمعه بقائد الجيش، وهما يتصوّران وكأنّهما يعاينان محيط المرفأ، بعد الإنفجار. كان ذلك في 12 آب 2020. بعد فوات الأوان.
أتلمَّستَ الآن الفارق بين الواقع، وصورة الواقع؟
لا أعلَم. أكادُ أشبّه رؤساءنا أجمَعين وانجازاتهم وصوَرهم بذاك الطفل السَّمج الذي كنّا كلّنا نعرفه، ذاك الذي كان كلّما استلم كاميرا ليلتقط صورةً عائلية قال: «قولوا جببببنة». على اعتبار أنّه، وبشيءٍ من الخفّة والحذلقة، قد ترجَم say cheese (الجملة المتعارف على قولها لحظة التقاط الصورة)، إلى العربيّة. لكن ما فاتَ هذا السَّمج، هو أنّ مُفرَدة «جبنة»، لا تحرّك عضلات الوجه بالشكل الكافي لرسم ابتسامة.
وما فاتَ العهد، هو أنّه يُصوّر، وهذا صحيح، لكنّنا، لا نضحك.
جربّوها: جبنة. جببببنة. جبــــــنة. هل تبتسم؟ طيب، قول: تشييييز! أرأيتَ البسمة على وجهك الآن؟