اغتيالات السياسة اللبنانية
التحق سماحة السيد حسن نصرالله الأمين العام لحزب الله برفاقه الشهداء العظام الخالدين الذين قاد مسيرتهم نحوا من 30 عاما.
هكذا نعى حزب الله أمينه العام، مؤكدًا الخبر الذي بات يعلمه الجميع. بعد أقلّ من أسبوع من اندلاع العدوان على لبنان، بات واضحًا أنّه كان هناك مخطط لدى القيادة الإسرائيلية، مخطط استغرق أشهراً من التحضير، إن لم يكن سنوات، حتى باتت هيكلية حزب الله مفضوحة وخريطة مراكزه مكشوفة وشبكات أمنه مخروقة. قرّرت إسرائيل تفجير قواعد الاشتباك والقضاء على حزب الله، بدءاً من أمينه العام الذي اغتيل وهو لا يزال يحاول التمسّك بقواعد اشتباك منتهية الصلاحية، وحيدًا من دون دعم حليفه الإقليمي.
رغم هول هذا الاغتيال، ليس القتل جديدًا في السياسة اللبنانية. فقد جاء هذا الاغتيال ليستكمل، وإن كان في ظروف مختلفة، قافلة الاغتيالات التي شكّلت إيقاع السياسة اللبنانية، سياسة كان العنف منذ بدايتها عنصرًا أساسيًا فيها. ومن بين هذه الاغتيالات، كمال جنبلاط وبشير الجميل ورفيق الحريري وغيرهم. واليوم تلتحق الطائفة الشيعية بهذه السلسلة التي كانت مسيرتها قد بدأت مع «اختفاء» موسى الصدر. شكّل كل واحد من تلك الاغتيالات منعطفًا في السياسة اللبنانية، أو دلالة لانعطافة قد تقرّرت في عواصم الدول النافذة في لبنان. ومع كل من هذه الانعطافات، سادت انقسامات طائفية وعنف حتى استقرّت الأمور على وضعها الجديد، بانتظار الاغتيال الذي سيليه.
من المبكر تحديد ما ستكون عليه ردّة فعل حزب الله وإيران على هذا الاغتيال. كما من المبكر التكهّن بما سيكون موقف حزب الله من الداخل اللبناني، وهو عائد إليه بحالة ضعف. لكنّ اختفاء شخصية بحجم نصرالله سيكون له تداعيات تفوق أي ردّة فعل أو مخطّط.
سيطرة حزب الله على بلد منهار
لم يأتِ اغتيال نصرالله جراء خرق معزول في بنية حزب الله، بل بعد ما يمكن وصفه بانهيار بنيوي في هيكليته، أدّى إلى استهداف واغتيال معظم كوادره العسكريين وجزء من قيادييه السياسيين. ولم يكن هذا انهياراً لحزب عادي، بل للّاعب الأهم على الساحة اللبنانية. لذلك كانت السياسة في لبنان، على الأقل منذ نحو عقدين من الزمن، تجري على إيقاع مشروع حزب الله، أو معضلة السياسة في ظل هذا المشروع لحزب كان قد أصبح أكبر من أن تستوعبه مؤسسات هذا البلد. ووراء هذه الاستحالة، مسألة السلاح الذي بقي حتى الأسبوع الماضي، الضامن الأساسي لسيطرة هذا الحزب، والمحرّك لشبكة أمنية باتت تحيط بالبلاد. لم تغتَل إسرائيل «سيد المقاومة» فحسب، بل قتلت ضابط إيقاع السياسة اللبنانية في لحـظة انهيار مؤسسات البلد.
لم يبقَ مشروع حزب الله هو نفسه، منذ استلام حسن نصرالله قيادته في عام 1992، مرورًا بالـ2005، ودخول الحزب الساحة اللبنانية مع مشروع هيمنة، سرعان ما فشل ليتحوّل إلى مشروع سيطرة على ساحة لبنانية كانت تزداد عدائية تجاه مشروعه وسلاحه. لكن رغم تقلبات المشروع السياسي والتحوّلات السياسية، من الانسحاب الإسرائيلي في عام 2000 إلى انسحاب الحليف البعثي في عام 2005، كان حزب الله بقيادة نصرالله يراكم مقوّمات جعلته الحزب الوحيد على الساحة اللبنانية. ومع اغتياله، بدأت الأسئلة تلوح في الأفق، ليس فقط حول مستقبل حزب الله، بل حول مستقبل السياسة في لبنان.
تأتي هذه الأسئلة في ظل إحدى أعنف الحروب الإسرائيلية على لبنان، والتي تنذر بإعادة التفاوض على قواعد الاشتباك وحدود السيادة اللبنانية التي أرستها حرب تموز 2006، والتي شكّلت الشرط الإقليمي لصعود حزب الله الداخلي. فمرحلة ما بعد نصرالله هي أيضًا مرحلة ما بعد هذا التفاوض، مع السجالات المتوقعة حول السلاح ووقف إطلاق النار والقرار 1701 والأزمة الداخلية. لم تنتهِ الحرب بعد، وما زال الميدان ما سيقرر معالم المرحلة القادمة. لكنّنا على مشارف مرحلة جديدة، أياً يكن شكلها، ستعيد تركيب السياسة مع ما يعنيه ذلك من عنف معتاد في السياسة اللبنانية.
نصرالله، حزب الله، الثنائي الشيعي، الطائفة
عندما أصبح نصرالله أميناً عاماً لحزب الله وهو في عمر الـ32، لم يكن أحد يتوقع أنّه سيصبح بعد عقد من الزمن أهم سياسي في لبنان، وربّما من أكثر القادة السياسيين شعبية في العالم العربي والإسلامي. كان ذلك في عام 1992 بعد اغتيال عباس الموسوي. في التسعينات، بقي نصرالله خارج السياسة الداخلية الممسوكة من حليفه البعثي، حصر اختصاصه في مقاومة إسرائيل وضحّى بإبنه هادي في عام 1997 في سبيل مقاومتها. بدأت شعبيته تزداد حتى تحوّل إلى أيقونة، خصوصاً بعد تحرير الجنوب في عام 2000 وحرب تموز في عام 2006.
تحوّلت هذه الشعبية، معطوفة على كاريزما شخصية، إلى سلاح داخلي مع ترؤسه تحالف 8 آذار ومن خلاله التحكّم بالبلاد. كانت صورة نصرالله أساسية في صعوده كزعيم ما سيعرف بقوة الثامن من آذار والطائفة الشيعية. تحوّل الحزب إلى راعي شؤون الطائفة، ونصرالله رمزها. ولتأمين السيطرة على الطائفة، تم ابتكار مفهوم «الثنائي الشيعي» الذي احتكر التمثيل السياسي ومنع أي اعتراض داخلي، هذا قبل أن يصبح مع فكرة «الثلث المعطل» الترجمة الدستورية لهذه السيطرة. ومهما تحوّل موقف حزب الله وخطابه، أو دخلته تناقضات بعد سوريا أو بعد الانتفاضة اللبنانية، بقي نصرالله الضامن الأساسي للموقف وموحّد الطائفة. في وجه طوائف مقسومة بين أكثر من قيادة، بدت الطائفة الشيعية بقيادة نصرالله استثناء صلبًا لا يُخترق من قبل أي معارضة داخلية أو خارجية.
السلاح، التنظيم، المحور
لم يكن نصرالله مجرّد زعيم لطائفة وحزب، بل كان أيضًا على رأس أوسع ترسانة عسكرية في لبنان وأكبر تنظيم أمني ومدني مدعوم من محور، بدا حتى الأسبوع الفائت وكأنّه يسيطر على جزء من الشرق الأوسط. شكّلت البنية التنظيمية والعسكرية لحزب الله الأسس المادية لسيطرته على السياسة اللبنانية. فالسلاح والتنظيم والمؤسسات والاقتصاد البديل شكّلت شبكة تعيش على تخوم الدولة واللا-دولة، لتخلق حزباً لا يشبه أي حزب آخر في لبنان. ومن بين هذه المقومات، العنف كأداة سيطرة، من خلال الاغتيالات أو التهديد بالحرب، أو حتى إطلاق موجات من العنف كانت كفيلة بتطويع الخصوم المحليين.
وما سمح بصعود حزب الله كان هذا الداعم الإقليمي الذي بدا، مقارنة بتقلبّات باقي الداعمين الإقليميين للأطراف اللبنانية، ثابتاً في موقفه. وواكبت إيران حزب الله منذ نشأته، مرورًا بالتحالف الصعب والدموي مع النظام البعثي، إلى لحظة وهجه الإقليمي، لتؤمن له ما لم يكن متوفرًا لباقي الأطراف اللبنانيين. لكن رغم الكلام الممانع، كان هذا الحلف يضعف جراء سياسة الاحتواء والحصار، ضعف بدأ يظهر بالامتناع المتزايد عن التصعيد من قبل الحليف الإيراني، قبل أن يصل إلى سياسة تهدئة إيرانية في وجه العدوان الموسّع الذي قضى على حليفها الأول، حسن نصرالله. فاغتيال نصرالله يأتي أيضًا في لحظة إعادة تفاوض إقليمي حول لبنان، مرحلة تأتي مع مخزون من العنف والاقتتال أيضاً.
الإسناد والرهان الساقط
لم يأتِ اغتيال نصرالله كاستهداف معزول، بل جاء بعد حرب إسناد بات عمرها سنة، حاول فيها الالتزام بقاعدة «وحدة الساحات» بأقل كلفة ممكنة، عبر محاولة فرض قواعد اشتباك تتجنّب الحرب. وكان الثمن هذه الحرب التي نشهدها. كانت الشكوك كثيرة حول هذه الحرب وجدواها، خاصة بعد أشهر من القتال الذي لم ينجح في وقف الإبادة في غزّة. لكنّ الحزب كان واثقًا من قدرته على ضبط المعركة، واعتبارها حربًا محدودة، لا تأثير لها على سائر البلاد. حاول نصرالله حتى اللحظة الأخيرة التمسّك بقواعد اشتباك كانت قد سقطت، ربّما لإدراكه أن لا قدرة على مواجهة حرب شاملة إلّا بأثمان باهظة.
مع اغتياله، يسقط الضامن الأخير لنظرية «الردع» في لبنان، أي نظرية إدخال لبنان في حروب لا يحتملها البلد ولا الإجماع اللبناني ولا الوضع الاقتصادي. فإذا كان نصرالله قد نجح باعتبار سلاحه «رادعاً» لأي مغامرة إسرائيلية أو ورقة ضغط للتفاوض، كما جرى مع اتفاق الغاز الذي هدّد الإسرائيليون بإعادة التفاوض عليه، كان دخوله في جبهة الإسناد خروجًا عن هذا الدور وإقحامًا للبلاد بحرب لم يكن هناك تحضير لها، أو رغبة عند الأكثرية، بخوضها.
رغبات الانتقام غير الدفينة
يطرح اغتيال نصرالله تحدّيات وأسئلة على الساحة السياسية اللبنانية، بعض من أجوبتها عند حزب الله، لكن البعض الآخر عند خصوم حزب الله الذين لم يخفوا رغباتهم في الانتقام منه، أو على الأقل، سرورهم من تدمير ترسانته العسكرية التي استُعمل جزء منها ضدهم على مدار السنوات الماضية. وإن كانت رغبة الانتقام مفهومة لدى البعض، ورغبة السيطرة متوقّعة عند آخرين، فإنّ ردود الفعل المتسرعة تشكّل المنزلق الذي يجب تفاديه بأي ثمن. فإذا كان حزب الله قد شكّل عنوان الحرب الأهلية قبل اندلاع طوفان الأقصى، فإنّ عنوان الحرب القادمة قد يكون «ردّة الفعل» على حزب الله.
الأسئلة التي تواجه البنيان السياسي اللبناني اليوم صعبة، والانزلاق العنفي كمهرب من هذه الأسئلة قد يشكّل الاحتمال الأكثر إمكانية: من سؤال الفراغ الذي يتركه نصرالله وموقع الطائفة الشيعية في الحسابات الداخلية إلى مستقبل السلاح في ظل حرب إلغاء تخوضها إسرائيل، وصولًا إلى الإجماع السياسي حول رفض تسليم حزب الله قرار الحرب والسلم. هذا بالإضافة إلى أن هذه الأسئلة تطرح على هذا البنيان الهش في لحظة تصاعد الانقسامات الطائفية، والتي باتت على وشك الانفجار صراعاً داخليًا، إمّا من قبل طرف يشعر بالضعف أو من طرف آخر يشعر أن لحظته قد جاءت. وهذا ليس تنبؤاً، بل درسًا من حروبنا الأهلية التي تلت كل اغتيال.
نحن أمام مرحلة مشابهة اليوم. ولن تنفع حلول الفولكلور اللبناني التي تحاول جمع من تمّ اغتيالهم في سلسلة واحدة من شهداء الوطنية المستحيلة. هذه الحيلة لن تنجح اليوم. كما لن ينفع الخطاب الانهزامي الذي يريدنا أن نسترضي أي إملاءات خارجية كوننا مهزومين. نحن أمام مرحلة جديدة، عنوانها بناء إجماع داخلي مختلف. بقينا سجناء مرحلة سياسية واحدة منذ عام 2005 حتى اليوم، بعنفها وسجالاتها وتحالفاتها، مرحلة تتحوّل اليوم على وقع القصف والقتل. يمكن محاولة التمسك بها مع خطر الانزلاق نحو عنف داخلي جديد. أو يمكن القبول بأنها انتهت، وأنّنا أمام منعطف تاريخي يتطلب حماية بأي ثمن ممكن للسلم الأهلي في لحظة الدمار هذه.