اشتدّت أزمة الصحة النفسية في لبنان، وتصاعدت حالات الاكتئاب والقلق، وتضاءلت الموارد اللازمة لمعالجتها. انعكس هذا التضاؤل على رفوف الصيدليّات. فقلّت الأدوية العصبية، ودخلت شريحةٌ ملحوظة من المُقيمين في محنةٍ بلا بدائل.
في ظل هذه المحنة، يصبح من المهم، أكثر من أي وقتٍ مضى، معاينة مسألة الصحّة النفسية: كيف تُنتَج، وكيف تُعالج. وتحديداً، يبدو المطلوب اليوم هو فهم العلاقة بين الصحة النفسية والطب النفسي والرأسمالية.
وهذا قد يوضّح نظرتنا للأسباب الجذرية لاضطراباتنا، وقد يمدّنا ببعض التوجيهات لتدارك المعاناة الجماعية التي تواجه عدداً هائلاً من المقيمين في لبنان.
كون البشر مخلوقات اجتماعية أساساً، فإنَّ جوانب عدّة من الصحة النفسية هي ذات طبيعة اجتماعية. ومنذ مذّةٍ طويلة، ثبُتَ أنّ العوامل الاجتماعية عوامل محدّدة ضمن الصحة النفسية، وعليه، تتباين الأوضاع النفسيّة مع تبايُن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والعرقية والجندرية وغيرها.
وقد أظهرت دراساتٌ في أميركا أنَّ العيش تحت النظام الرأسمالي والنيولبرالي، يؤثّر سلباً على الصحة النفسية، عبر التدمير الممنهج لشبكات الأمان الاجتماعي والاستغلال الواسع للعمّال وتزايد اللامساواة والشعور بالوحدة الناجم عن الاغتراب. فالقلق والاكتئاب المُتَأتّيان عن اللاعدالة والظلم، ليسا من نتائج رأسمالية في طورها المتأخر فحسب، بل أيضاً من دوافع استمرارها: مثلاً، قلق العمّال المستمرّ بسبب التهديدات المتواصلة التي تطال صمودهم (الماديّ)، هو الذي يدفعهم لقبول العلاقات المادية الاستغلالية والاستلابيّة التي تحرّك هذا النظام.
وبالرغم من أنَّ المقاربة الاجتماعية لا تفسّر بشكلٍ كليّ كافّة جوانب الاضطرابات والمعاناة النفسية (خصوصاً في حالات الاضطرابات الحادّة والمزمنة)، فإنَّ العديد من المقاربات الحديثة لا تزال تنفي تأثير العوامل الاجتماعية على الصحة النفسية. بحسب المقاربة الاجتماعية، فإنّ المقاربات التقليدية للطب النفسي، بما في ذلك وصف الأدوية النفسية، ليست دوماً كافية للتعاطي مع العوامل الاجتماعية الكامنة وراء أزمة الصحّة النفسية لدى الأفراد والجماعات.
أبعد من ذلك، فإنَّ فهم طرق إنتاج المعرفة النفسية في بعض الحالات يسلّط الضوء على واقع أنَّ النظام الرأسمالي ليس أحد الأسباب الجذرية لتدهور الصحة النفسية فحسب، بل ينتج أيضاً النظام المعرفي الذي تحصل، بموجَبه، عمليّات «بَيع العلاج» لنا.
لعقود، سَوّقَ الطب النفسي للنموذج البيولوجي-النفسي-الاجتماعي، لكنّه عوّل، بالمقابل، على النموذج الطبي-البيولوجي الذي يختزل الاضطرابات بجملةٍ من العوامل الحيوية والجزئيات و«الخلل الكيميائي»، قد تكون الـSSRI، أي «مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية»، وهي مادّة تعمل على زيادة مستويات السيروتونين عبر منع امتصاصه من قبل بعض الخلايا، من أبرز الأمثلة التي تدلّ على عدم كفاءة الاعتماد بشكلٍ حصري على النموذج الطبي-البيولوجي. تدخل الـSSRI بشكلٍ شائع ضمن مضادات الاكتئاب، ويُسَوَّق لها على أنّها تستهدف «الخلل الكيميائي» داخل الدماغ، وهو الخلل الذي يتسبّب باضطرابات عديدة مثل الاكتئاب والقلق. غير أنّ العلّة في هذه المقاربة أنّها تحصر تجارب الاكتئاب والقلق، وعلاجها، بعناصر كيميائية: عناصر نقصت، فاستهدفت الـSSRI هذا النقص، وأعادت «التوازن الطبيعي» لعناصر الدماغ الكيميائية.
تبدو هذه الرواية مقنعة، إلّا أنّه لا يوجد حتى الآن إجماعٌ علمي يردّ الاكتئاب إلى اختلالٍ في «التوازن الكيميائي»، كما أنّه لا يوجد تأكيدٌ علمي على آلية العمل النظرية للـSSRI في علاج الاكتئاب. بالإضافة إلى ذلك، تتجاهل سردية «الخلل الكيميائي» تماماً دور العوامل الاجتماعية في حالات الاكتئاب والقلق.
على الرغم من كل ذلك، اكتسبت أسطورة «خلل التوازن الكيميائي» أهميةً واسعة وتحوّلت إلى استراتيجية مركزيّة في التسويق لمنتجات الصحّة النفسية. حتّى أنّه، في بعض أشكال التسويق، لجأت شركات الأدوية إلى استغلال الأكاديميا. فتبيّن في العقود الأخيرة أنَّ بعض الدراسات الصيدلانية المهمّة والتي نشرت تحت أسماء أكاديميين نافذين، كُتبت في حالاتٍ عديدة من قِبَل شركات خاصّة استأجرتها شركات أدوية. تثير هذه المعلومات مزيداً من التساؤلات حول مدى فعالية الـSSRI في علاج الاكتئاب والقلق لدى الأفراد، ناهيك بفعاليتها في تلبية احتياجات الصحة النفسية لجماعاتٍ كاملة.
ترتبط الـSSRI إذاً، بوصفها أبرز علاجات الاكتئاب، ارتباطاً جوهرياً بأساليب الإنتاج الرأسمالية. كما تنطبق الشكوك ذاتها على فئاتٍ أخرى من الحبوب النفسية. وعند التدقيق بازدياد شعبية هذه الحبوب وتغلغلها الفجائي في الأسواق العالمية، تتّضح بعض آليات عمل النظام الرأسمالي: لا يتوقّف الأمر عند خلق ظروف معاناة جماعية، بل يتخطّاها، إلى حدٍّ يعود فيها النظام نفسه لبيع «العلاج» المزعوم، مختبئاً خلف المصطلحات العلمية.
في الخُلاصة، لا يهدف ما ذُكر إلى القول إنّ الأدوية النفسية ليست فعّالة. فقد فاقم انقطاع الدواء من الأسواق اللبنانية الأعراض عند بعض المصابين، إذ كانت أدويتهم النفسية تساعد في تحسين وضعهم النفسي والتخفيف من أعراض الاضطرابات. كما أنّ لانقطاع هذه الأدوية انعكاسات هائلة، وخطيرة.
مع ذلك، فإنَّ التركيز المفرط على العلاج الفردي المحصور بالشقّ الطبّي- البيولوجي، يلغي دور العوامل الاجتماعية في الاضطرابات النفسية. ويختزل هذا التركيز المعاناة الجماعية بمسألة بيولوجية فردية، تحمّل الأفراد مسؤولية اضطراباتهم.
يُخفي هذا الاختزال مضاعفات اللامساواة والظلم والاستغلال والاغتراب، ويؤطّرها تحت سقف المسألة البيولوجية، بهدف إخفاء الأسباب الجذرية لتدهور صحّتنا النفسية. بالنتيجة، تُهَمَّش الجهود الجماعية التي تطالب بحلولٍ اجتماعية ومادية وتسعى لخلق شبكات تضامن وأفعال من النضال المباشر.
في دوّامة السعي للحصول على أدويتنا النفسية، يصبح من المهم، أكثر من أي وقتٍ مضى، أن نقف وأن نتمهّل قليلاً… ونتنبَّه إلى العوامل الاجتماعية التي أنتجت ولا تزال تُنتج هذه الاضطرابات، والعوامل الاجتماعية التي قد تساهم أيضاً في علاجه. عندئذٍ فقط، يصبح ممكناً أنّ نحوّل تركيزنا للبحث عن حلولٍ إجتماعية، ولبناء مجتمعٍ أكثر عدالةً، مع أوضاع معيشيّة ونفسيّة أفضل للجميع.