تحليل
سلسلة
حبّة عند الحاجة
ريم منصور

جمهوريّة «الحبّة الكحليّة»

بلادٌ بلا ليبيدو

28 آذار 2022
  • أنا هلّق سافّة حبتين فَاليوم 25 ميليغرام، ولا كأنه في شي، عم برقص بعدني.
  • أنا بِعلُك موتولون لمعلوماتك متل المعلَّل. أنا بضيّف الموتولون بأوساطي. بعدين خليني فرجيكي إيديي...
  • يا حرام عليك... أنا الحكيم بيعملّي إبرة ديميرول بضلّ واقفة ما بيصدّق عيونه. بيقللي غريبة إنتِ ملّا مرا.  
  • أنا بخلط الأفافورتون مع الديميرول بإيد وبطرقها، وبعود لما حسّهن زكزكوني بهالإيد بطرق الهيرويين شخصي بالإيد التانية. 
  • إنتَ دايق التيغريتول مع الفروكتيزول عالريق؟ أنا هول باخدهن مع بيرة سودا وبرشّ فيهن ملح. روح يا!
  • عرق بلدي مع كراش... 
— مسرحية بخصوص الكرامة والشعب العنيد - 1993


أستغرب دوماً، حتى منذ ما قبل عامَي الانهيار الأخيرين، أن تكون عقاقير البنزوديازيبين (المهدئات مثل الكزاناكس والفاليوم والليكزوتانيل وغيرها) لا تزال تحتاج في لبنان إلى وصفةٍ طبّية كي تُباع في الصيدليات. أعلم أنها أدوية خطيرة وأن احتمالات الإدمان عليها كبيرة، ولكن بالنظر إلى تاريخ هذا البلد — يكفي البدء من اندلاع الحرب الأهلية مثلاً، علماً أنني أظنّ أن الجنرال غورو كان يجب أن يحمل معه حزمة منها (أو ما كان يعادلها آنذاك) إلى قصر الصنوبر حين أعلن منه قيام «لبنان الكبير» — تظنّ أن هذه العقاقير يجب أن تُعامل معاملة الأساسيات المعيشية (إذا افترضنا أنها متوفرة يعني).

ومع أن الوصول إليها لا يزال، أقلّه في الظاهر، طبّياً علاجياً، يدلّ الإقبال الكبير في لبنان على المهدئات ومضادات الاكتئاب في السنوات الأخيرة، على أنها أصبحت عنصراً أساسياً في يوميات اللبنانيين، وتكاد تكتسب رمزية وطنية تماماً مثل رغيف الخبز. 


سوما

في سياق غير بعيد كثيراً، كان عقار «سوما» في رواية «عالم جديد وشجاع» (1932) مفروضاً على الناس من قبل الحكومة. يصف ألدوس هكسلي في الرواية عالماً مستقبلياً بائساً تسيطر فيه الدولة من خلال العلم والتكنولوجيا على حيوات الناس. ولكن بخلاف رواية أورويل «1984»، لا يعي المواطنون في رواية هكسلي أنهم غير أحرار، وذلك يعود إلى «سوما» التي تداوي كل المشاعر المضطربة: القلق والاكتئاب والغضب والاغتراب... يقال إن لحظة التوصل إلى تركيب عقار «فاليوم» في الولايات المتحدة عام 1959، أعادت إلى الأذهان حبّة هكسلي السحرية التي تنبّأ من خلالها بالثورة التي ستحدثها الكيميائيات طبّياً في حياة الأفراد.  

إلى جانب آليات علمية خيالية أخرى تضمّنتها الرواية، استطاع هذا العقار أن يصنع «وعياً طبقياً أولياً» منصاعاً تماماً، يهيّئ الفرد للقبول التامّ بأيديولوجيا الدولة والامتثال الكلي لها، واعتبار أفكارها وأفعالها بديهيات لا لبس فيها. ويمكن القول إنه إذا كان ماركس قد شبّه الدِّين بالأفيون لكونه «زفرة الكائن المضطهد» و«وروح عالم لا قلب له»، فإن هذا العقار وما يعادله قد تحوّل ليصبح هو، بالمقلوب، ديناً للشعوب قائماً بذاته. إذ إنه يمثّل ملجأً من الشقاء والتعاسة — ما يعيد إبراز الخيط الواهن بين العقاقير والمخدرات. من هنا، يمكننا استنتاج أنّ «سوما» تساهم بإرساء مفهوم التعمية Mystificationالماركسي الذي من شأنه أن يخفي العلاقات الاستغلالية في المجتمع، ما يجعل الأشخاص المستغَلّين يتجاهلون حقيقة تعرّضهم للاستغلال. 


الواقعيّة الرأسماليّة والرغبة الجنسيّة

هنا لا بد من الاستعانة بنظرية الناقد البريطاني مارك فيشر عن «الواقعية الرأسمالية» والتي تعني ببساطة العجز عن تخيّل بديل للرأسمالية. الواقعية الرأسمالية تصرّ على التعامل مع الصحة العقلية على أساس فردي حصرياً، وعلى اختزال الاضطرابات النفسية بخلل كيميائي في أدمغة الأفراد. طالب فيشر بتسييس الصحة العقلية لأن جائحة القلق والاكتئاب التي تجتاح الكوكب في زمننا، هي مثل التغير المناخي، واحدة من آثار النيوليبرالية الكارثية. وفي هذا الاتجاه، أعتقد أن التهافت على مهدئات الأعصاب وعلى مضادات الاكتئاب هو أيضا إحدى سمات الواقعية الرأسمالية تلك، حيث يعوّض الفرد غياب مستقبلٍ وبديل عن عالم متداعٍ، بواسطة تخدير الوعي الطبقي والسياسي وقمع المشاعر التي من شأنها أن تسائل الوضع القائم أو تدفع باتجاه التمرد عليه. 

إلى جانب دورها القمعي هذا، إن جاز التعبير، يمكن الحديث أيضا عن سمةٍ أخرى تساهم كذلك في نزع ما هو إنسانيّ من الفرد. تقضي المهدئات ومضادات الاكتئاب على الرغبة الجنسية لدى المستخدم، أو على الأقل تؤثر عليها سلباً بشكل كبير. ويعرف كل من لجأ إلى هذه الأدوية أنه يضطر غالباً في نهاية المطاف أن يختار، إما صحّته العقلية أو رغبته الجنسية، وفي أغلب الأحيان يكون الرابح هو الاحتمال الأول. المفارقة هنا، أن الرأسمالية بدورها تساهم في القضاء على الليبيدو الذي يعرّفه فرويد على أنه الطاقة التي تشكّل ما يطلق عليه في العموم إيروس أو الحب، أكان جنسياً أم لا. فالليبيدو يمثّل أيضا طاقة الحب الذي يتمتع به المرء للآخرين وحب الذات، وأيضاً وخصوصاً الارتباط بشيء أو بفكرة ما.

اشتغل العديد من الفلاسفة على تأثير الرأسمالية على الرغبة، أبرزهم جيل دولوز وفيليكس غواتاري. لكنّ الفيلسوف الفرنسي برنار ستيغلر رأى أن الرأسمالية تدمر الرغبة. يحدث ذلك عبر تقليصها إلى دوافع واحتياجات فقط. الليبيدو هو المنجم الرئيسي للرأسمالية في القرن العشرين بحسب ستيغلر، فهي تستغله عبر تحويل الرغبات إلى مواضيع استهلاكية فقط. هذا الاستغلال غير المحدود للّيبيدو هو ما يدمر الرغبة. ينسحب مآل الرغبة هذا على الحياة السياسية. فالرغبة بحسب أرسطو هي شرط الحياة السياسية لأنها أساس الفيليا، أو الصداقة، أو الرابط العاطفي بين الأشخاص، في وقت لا يبني فيه الدافع أي شيء من هذا. ستيغلر يؤكد أن استنفاد الرغبة يقضي حتماً على الحياة الاجتماعية وبالتالي السياسية. هل يلفت نظرنا هذا إلى شيء؟


لاحظت قبل مدة أن مسرحيات زياد الرحباني تتضمن إشارات عدة إلى الأدوية النفسية. من الحبة الكحلية التي لا تؤثر على رشيد في «فيلم أميركي طويل» حيث تدور الأحداث في مستشفى للأمراض النفسية، إلى نداء المخرج نور إلى مساعده غريغور: جبلي حبوبي في «شي فاشل»، وصولاً إلى المبارزة المذكورة أعلاه بين كارول واليائس في لبنان ما بعد الحرب في مسرحية «بخصوص الكرامة والشعب العنيد». أتساءل الآن، بعد كلّ هذا الوقت ومع اشتداد اللجوء في الوقت الحالي إلى هذه الأدوية، عن حال وعي اللبنانيين لاستغلالهم كما عن حال رغباتهم بمختلف أوجهها وعن حال حياتهم السياسية... ولعلّ الإجابة أسهل ممّا نظنّ.

سلسلة

حبّة عند الحاجة

سيبرالكس أو زولوفت؟ طيب عم تقدر تنام بلا حبّة؟ مرحبا، بلاقي عندكم هالدوا؟
أسئلة انتشرت في الزمن الأخير، مع تقلّب يوميّاتنا في زمن الانهيار. لكنّ الأدوية النفسية كانت دائمة الحضور، وجديد اليوم يقتصر على احتلالها حيّزاً أوسع من النقاش العام، ينال درجةً أعلى من القبول عمّا سبق.
يسعى هذا الملف إلى تغطية هذه المساحة، عبر مقاربة مسألة حبوب الأعصاب من زوايا عدّة، من الملموس إلى المُجَرّد، ومن التأييد إلى النقد. يسعى الملف إلى التوقّف قليلاً عند هذه الميلّيغرامات القليلة، والتطلّع إلى ما بعدها، ما بعد العلاج، وما بعد الأزمة.


إجابات بعطيها لمعالجتي النفسية | يوميات
الحرب الأهليّة ليست تروما | تحليل
الاكتئاب والقلق والطبّ النفسي في ظلّ الرأسماليّة | تحليل
رحلتي مع الحبوب من «أنا السابقة» إلى «أنا» | يوميات
نصف حبّة سيروكسات بمواجهة قرين الكوابيس | يوميات
تلك الميلّيغرامات القليلة من الهدوء | يوميات

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
إسرائيل تدمّر مبنى المنشية الأثري في بعلبك
جماهير «باريس سان جيرمان»: الحريّة لفلسطين
مطار بيروت يعمل بشكل طبيعي
فكشن

الدني بتهزّ، ما بتوقاع

عمر ليزا
37 شهيداً في عدوان يوم الثلاثاء 5 تشرين الثاني 2024