يوميات
سلسلة
حبّة عند الحاجة
سمير سكيني

تلك الميلّيغرامات القليلة من الهدوء

25 آذار 2022

بِمَ يُقاس الهدوء؟
لا يُقاس «علميّاً»، على قدر ما أعرف. لا وحدة لقياسه. في الطبيعي من الأحوال، هو يُعرَّف بالضدّ، بغياب الضجيج. لا وجود للـ«هدوء» بذاته. لا تعريف إيجابياً له. هو خفوت الصوت.

يُقاس الصوت بالديسّيبلز، ربّما. أو بالهُرتز؟ بعرفش. لكن ما أعرفه هو أنّ الهدوء لا يُقاس، بالحالة هذه، بهرتزٍ سلبيّ، أو بناقص كذا ديسّيبل.

طيب، هل يُقاس بالأمتار؟ إذ قد يحدث أن يكون الهدوء مسافة.
مسافةُ ابتعادك عن مكانٍ ما، عن شخصٍ ما. لكنّ المسافة الملموسة سخيفة أمام ما هو مُجرَّد: فكرة ذاك الشخص مثلاً، مروره بذاكرتك، أو فكرة المكان الآخر. قد تعكّر هذه الأفكار هدوءَك، بصرف النظر عن كمّ الأمتار الفاصلة بينكما.

طيب. بِمَ يُقاس الهدوء إذاً؟

الجواب بديهي عند حبّة الليكزوتانيل الأولى. عند نصف الحبّة حتّى: 1.5 ميلّيغرامات من الهدوء.

خشخشخش.
هذه وحدة أخرى لقياس الهدوء.
خشخشخش.
يأتي الصوت من الشنطة.
خشخشخش، هذه خشخشة عبوة السيروكويل: 25 ميلّيغراماً من الهدوء. (في الليلة العادية، طبعاً؛ مضروبة بأربعة في ليالي الأرق. أي في معظم الليالي. أحّا).

طيب عال، وجدنا ما نقيس به الهدوء، بسقفٍ لا محدود.
1.5 مغ
3 مغ
4.5 مغ…

4.5 ميلّيغرامات من الهدوء؛ روعة.

أمّا اللذّة، فهي في أنّ لهذه «الميلّيغرامات» مفاعيل متفاوتة.
مثلاً، 1.5 ميلّيغرامات من هدوء الليكزوتانيل، مختلفة تماماً عن 10 ميلّيغرامات من هدوء السيبرالكس. في الحالة الثانية، تقترض الميلّيغرامات العشرة اليوم لتحصل على الهدوء المقابل لها بعد أسابيع، على أقرب تقدير. يمكن القول مثلاً، أنّ بحوزتي منذ اليوم 10 ميلّيغرامات من الهدوء سأنالها الشهر المقبل. روعة!

هذه بذاتها فكرة كافية لتأمين الهدوء الفوريّ.

مع الوقت، تكتسب هذه الميلّيغرامات قيمةً «ما فوق حسّية»، بتعبير ماركس. مثلاً، يمكنك أن تشعر بالهدوء لمجرّد أن تلمس في جيب السترة حبّة الليكزو، من دون تناولها. فكرة أن تكون أكيداً أنّك تحمل حبّة ليكزو، بحال صار ما صار، هي فكرة كافية لتؤمّن لك قدراً محدّداً من الهدوء.

بذلك، يصبح وجود الهدوء مرتبطاً بوجود هذه الميلّيغرامات.


سؤالان يُطرحان هنا:

  1. ماذا لو ما عادت هذه الميلّيغرامات موجودة؟ ماذا لو انقطعت من السوق مثلاً؟
  2. ماذا لو أضفنا عامل الوقت إلى المعادلة؟ هل ستبقى هذه الميلّيغرامات قادرة على تأمين هذا الكمّ من الهدوء بعد قدرٍ محدّدٍ منها؟ ماذا يحدث بعد 3,780 ميلّيغراماً من السيبرالكس؟ بعد 10,175 ميلّيغراماً من السيروكويل؟ الخ…

أبعد من ذلك. ما الخيارات التي تحذفها من دربك، عند اختيار درب الميلّيغرامات هذه؟

  • طيب، انه اذا أنا مبسوط لأن أخدت حبّة تخلّيني صير مبسوط، هيدا معناته منيش مبسوط عنجد، صح؟
  • ايه ولأ… هيدي بدك تحكي فيها مع حدا تاني. شو رأيك؟
  • همم، تسؤ.

بعد الجولة الثانية من التفكير، ستفقد حماسك لقياس الهدوء بالميليغرامات. ولو كان ذلك دقيقاً، نوعاً ما، لكنّه، بأفضل الأحوال، يبقى مقياساً منقوصاً. لكنّها تبقى، بكل الأحوال، رحلة جديرة بالتجربة.

ثم تُطلق بحثاً جديداً في قياس الهدوء- والسعادة.

إشارة: قد تكمن الإجابة في الخيارات التي تقفز الحبوب فوقها (أو تتماشى معها في بعض الأحيان). في تلك المساحة المشتركة من الكلام.

صحيح. أعلم، أنّك، قد، تكون متردّداً، أمام هذا الخيار. فأنتَ/ أنتِ، لم تعرف هذه المساحة من قبل، والأرجح، أنّك، لن تعرفها مستقبلاً، لأسباب لا طاقة لك على شرحها. لكن، بجميع الأحوال، اقتربتَ اليوم خطوةً من ذاتك، من أناك.

تنامى فيكَ نفورٌ صغيرٌ من الكيميائيّات. ذلك أنّك وإن شعرتَ بتحسّنٍ ما، بفضلها، فإنّ الحبوب لم تُعِد لك صديقاً، ولن تُعيد.
لن تجد لك حضناً تلقي رأسك البطيء فيه.
لن ترمّم قلب أمّك الحزين.
لن تفتح معك حديثاً في الثانية بعد انتصاف الليل.
ولن تعطيك أجوبة. لكنّها قد تُساعد في طرح الأسئلة.
لن تعيد لك الدهشة. ولا طعم التوت. ولا خصلة الشعر البنّية. ولا اليد الناعمة. ولا متعة الصيف. ولا لذّة طَي الصفحة الأخيرة من الرواية. ولا وقت الفراغ. ولا وقت الرسم واللهو. ولا القبلة الأولى. ولا حتّى الأخيرة. ولا لون المحيط الأزرق. لن ترى الأزرق ذاته بعد اليوم. ولا حتّى أحمر أحلامك القرمزيّ.

وأنتَ، إن أردتَ شيئاً في حياتك، يا صغيري، فهو كل ما ذُكر. لكنّك تدرك اليوم، أنّ ذلك كلّه بعيد.

وهناك، في البعيد، بحرٌ من الماء الذهبي يرتطم موجه بشاطئٍ رمله من حبوب الأعصاب والمنوّمات. في الأفق، رجلٌ يسبح وحيداً. سيغرق. يطوف على سطح المحيط. لكنّه في النهاية، سيغرق. هو أراد أن يغرق. طمَسَ أذنيه بالماء. قال لنفسه، هكذا أكفّ عن سماع الضجيج من حولي. يوتّرني الضجيج. تغرب الشمس، بالتدرّج، ولو ببطء. في الأفق، يرتسم خيطٌ أخضر رفيع. والرجل الوحيد، يغرق. والموج، يرتطم بالشاطئ. وينسحب. ويعود. وسيبقى الموجُ يرتطم بالشاطئ، وينسحب. ويعود. ويعود. ويعود، إلى أن يخيّم الهدوء.

سلسلة

حبّة عند الحاجة

سيبرالكس أو زولوفت؟ طيب عم تقدر تنام بلا حبّة؟ مرحبا، بلاقي عندكم هالدوا؟
أسئلة انتشرت في الزمن الأخير، مع تقلّب يوميّاتنا في زمن الانهيار. لكنّ الأدوية النفسية كانت دائمة الحضور، وجديد اليوم يقتصر على احتلالها حيّزاً أوسع من النقاش العام، ينال درجةً أعلى من القبول عمّا سبق.
يسعى هذا الملف إلى تغطية هذه المساحة، عبر مقاربة مسألة حبوب الأعصاب من زوايا عدّة، من الملموس إلى المُجَرّد، ومن التأييد إلى النقد. يسعى الملف إلى التوقّف قليلاً عند هذه الميلّيغرامات القليلة، والتطلّع إلى ما بعدها، ما بعد العلاج، وما بعد الأزمة.


إجابات بعطيها لمعالجتي النفسية | يوميات
الحرب الأهليّة ليست تروما | تحليل
الاكتئاب والقلق والطبّ النفسي في ظلّ الرأسماليّة | تحليل
رحلتي مع الحبوب من «أنا السابقة» إلى «أنا» | يوميات
جمهوريّة «الحبّة الكحليّة» | تحليل
نصف حبّة سيروكسات بمواجهة قرين الكوابيس | يوميات

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
12 غارة على الضاحية الجنوبية لبيروت
5 تُهم ضدّ نتنياهو وغالانت 
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد
مقتل باحث إسرائيلي كان يبحث عن «أرض إسرائيل» في جنوب لبنان