أكتب هذه الكلمات، تحت تأثير عوارض الانسحاب، بسبب انقطاع دوائيَ المضاد للاكتئاب، وعدم تجاوبي مع الدواء البديل.
منذ عشر سنوات، شُخّصت باضطراب ثنائي القطب، لتبدأ حينها رحلتي مع الأدوية النفسية ومهدّئات الأعصاب. حينها، اتخذت قرار اللجوء لها بشكلٍ سلسٍ وسهل، بعد معاناةٍ مع حالات الاكتئاب وأعراض الهوس. كانت الحبوب الحل الأسرع كي لا أفقد نفسي كليّاً، لا سيّما بعد محاولة الانتحار الأولى. كما تُلاحظون، باءت المحاولة بالفشل.
أصبحت بنظر محيطي «هيدي المريضة نفسياً». هذه الوصمة التي ما زالت ترافقني حتى اليوم أحياناً، كانت «أكسسواراً» حملته معي — تماماً كحبوب الدواء التي تتغيّر بحسب الطبيب المعالج.
اكتشفت حينها أنّني لا أعرف شيئاً عن العلاجات الطبيّة ولا عن حبوب الدواء ولا عن طريقة تفاعلها في جسدي. لكنّي مع ذلك، اعتقدتُ أنّ الأدوية ستكون المنقذ. كيف لا، وقد كان الطبيب يشرح لي، بطريقته العلمية، عن كيفية عملها؛ والعلم، بذهني، لا يُخطئ. فاعتبرت أن هذه الحبوب الصغيرة ستكون حلّاً مثاليّاً لمساعدتي على العودة لـ«الأنا السابقة».
أخبرني الطبيب أيضاً أنّ هذا الخليط من الحبوب، مثبّتات المزاج ومضادّات الذهان ومضادّات الاكتئاب، ستكون مفيدة لمن يعانون، مثلي، من اضطرابات المزاج.
الأسبوع الأوّل من العلاج- خارج جدران غرفة المستشفى
أسبوعٌ من التعب الممزوج بالآثار الجانبية للحبوب الملوَّنة التي واظبتُ عليها يوميّاً، حتّى صرتُ أعاني من حالات غثيان وساءَت قدرتي على التركيز، فضلاً عن بعض الهلوسات غير المفهومة. لكن بقيتُ أُقنع نفسي، يوميّاً، أنّ ذلك هو الخيار الوحيد المتاح أمامي — فهل يُعقل أن يكون الطبيب على خطأ؟
نعم… ممكن. أعتقد أنّ العلم ليس دوماً على حق؛ فنحن مجرّد حقول تجارب لتفاعل أدويةٍ محدّدة داخل أجسادنا.
الأسبوع الثاني (ربّما) من العلاج- أيضاً خارج جدران غرفة المستشفى
رغم كل الأدوية، لم ينجح أيٌّ منها في جعلي أشعر بالتحسّن. لم أشعر بتغيَّرٍ فعليّ في أعراض الاضطراب الثنائيّ القطب. بل بالعكس، شعرتُ أنّي لا أزال عالقة في الدوّامة ذاتها. لم تختفِ الأعراض، لكنّ حلمي بالشفاء العاجل اختفى.
غريب كم كنتُ متساهلة مع الاستسلام. لكنّ الضربة القاضية الأولى لرحلات العلاج بالأدوية كانت مع عودة الأفكار الانتحارية. كل يوم. كل ساعة. كل لحظة.
لسوء حظّي، لم يكن ذاك الدواء مناسباً لي، ومنذئذٍ، استمرَّت مراحل تغيير العلاج. وعند كلّ فشلٍ جديد، كنتُ ألوم الطبيب، وأبدأ رحلةً جديدة في البحث عن طبيبٍ جديد.
تعدّدت أسباب تغيير الأدوية: إمّا بسبب الأعراض الجانبية، المرعبة، التي كانت بالنسبة لي أسوأ من الأفكار الانتحارية نفسها؛ إمّا بسبب وصف دواءٍ لا يتناسب مع حالتي الصحية. حتّى أنّني، ذات مرّة، توقّفت عن تناول الأدوية جميعها، لأنّها كانت عبارة عن منوّمات لا أستفيق منها سوى ساعاتٍ قليلة.
خَيَّمت حالة القلق تجاه الحبوب مدّةً طويلة، إلّا أنّها بدأت تتلاشى، بشكلٍ تدريجي، حين بدأتُ أتواصل مع طبيبتي، وأفهم منها بشكلٍ أفضل عن هذه «الحالة». عثرتُ على الشخص الذي أخبرني، وبخلفيّته العلمية، لماذا «أنا» أمرّ بكل هذه التجربة. وذلك بالرغم من أنّي كنتُ فعلاً في حالةٍ من فقدان الأمل، ومن السأم من تكرار التجربة ذاتها، مرّةً بعد مرّة بعد مرة…
حينها، سمعتُ للمرّة الأولى بأنّه يجب عليّ مُصادقة اضطرابي والتصالح معه، ومع أدويته، والأهم، مع رحلة العلاج نفسها التي عليّ أن أعتاد عليها. كانت تلك المرّة الأولى التي أسمع فيها- بشكلٍ واضحٍ وصريح- أنّ علاج الاضطراب الثنائي القطب يستغرق وقتاً طويلاً، ويحتاج إلى جهدٍ ومتابعة ومثابرة.
هنا، طُرحَت مسألة الإرادة في ما يتعلّق برحلة العلاج. أمّا أنا، فلستُ من أصحاب الإرادة (لكنّ صديقي، عند مراجعة المقال، أصرَّ على العكس). إذ كنتُ، كلّما التزمتُ بالعلاج أشهراً، وكلّما وجدتُ نفسي في حالة استقرار، أخفّف أدويتي من دون مراجعة طبيبيَ المعالج؛ فأعود إلى الانتكاسة الشهيرة، وأبدأ الرحلة من أوّلها، من جديد.
أمّا ما غرس في باطني فكرة أنّ الوصول إلى الاستقرار ممكن، بعد المضي قدماً بالعلاج، فكان الوضوح في شرح طرق العلاج المتنوّعة، والفرق بين مجموعات مختلفة من الأدوية، وطرق تفاعلها، والجرعات المختلفة، والأهمّ، طريقة مراقبة وتتبّع نتائج التحسّن.
ساعدتني هذه العوامل، تقبّلتُ الموضوع أكثر فأكثر، والتزمتُ بالجدول، وبرحلتي.
وها أنا اليوم، بعد قُرابة العقد، ما زلتُ أحجم عن القول أنّني أعرف نفسي حقاً، وعن القول بأنّي أعرف ما هو الاضطراب الثنائي القطب. لكنّي أعرف أهمية البحث والعثور على طبيبٍ نثق به.
وأعرف، وأنا أكيدة المعرفة، أنّ العيش مع ثنائي القطب لسنواتٍ طويلة، يعلّمنا الكثير عن وضعنا النفسي، وعن الخدمات الصحيّة/ النفسية، وعن الأدوية. لكنّه غالباً ما يعلّمنا أيضاً، للأسف، عن وصمات العار، وعن التمييز، وعن تقصير الدولة بحقّ هذه الفئة من المُقيمين.