لم أكن أعرف ريما جيداً قبل أن نتشارك غرفة الفندق في جزيرة ثولوسدو في المالديف. تعرّفتُ إليها في الليلة التي سبقت سفرنا من دمشق. وقفتْ مشقّات الطريق عائقاً أمام تبادلنا أيّ حديث عميق، بينما ترافقنا رحلة الطائرة وشنططة المطارات التي كانت مليئة بالتوتر والترقّب المرافق للعقبات التي فرضتها جوازات سفرنا السوريّة. كنت متخوّفة من مشاركتي مكاناً حميمياً كغرفة النوم مع شخص غريب، بعدما لازمتْني أعراض الاكتئاب وصرت غير قادرةٍ على إخفائها، خصوصاً ليلاً أو خلال النوم حين تجثو الكوابيس على صدري كقرين يستخدم الصراخ أو الأنين للتعبير عن مكنوناته.
لذلك، في الفترة التي سبقت سفرنا مباشرةً، شاركتُ هذه الهواجس مع طبيبي. شرحتُ له ظروف سفري، وعدم رغبتي بمشاركة هذه الأعراض مع رفيقة الغرفة. قال على عجل ومن دون تفكير يذكر: زيدي نِص.. بالسلامة، وأغلق السماعة.
علبة معدنيّة
بدأتُ العلاج الدوائي للاكتئاب والقلق منذ سنة تقريبًا، أي بعد عامَيْن من المعاناة وتأجيل المواجهة مع الكيمياء الدوائية والمعالجين النفسيّين. أصبح من بعدها ظرف الدواء الأبيض والأزرق الذي يحمل اسم سيروكسات جزءاً أساسياً من الرفّ الذي يعلو سريري، أو أي سرير آخر أنام فيه، إذ إنّ الموعد المحدد لتناوله يوميًا هو قبل النوم. بعد فترة، قرّرت أن أتخلّص من شرائط الأدوية وأصوات طقطقتها التي تذكّرني بأنّني غير سليمة. استبدلتُها بعلبة معدنية للحبوب كمحاولة للتحايل على العار والقلق المرافق لها، مستلهمةً الفكرة من أصدقائي الذين امتلك كلّ منهم علبةً معدنية ملوّنة.
تعدّدت الأغراض الأصليّة لهذه العلب التي سرقها أغلبهم من أمّهاتهم أو من شركاء سابقين، فبعضها كان للعلكة أو الشموع أو الصابون، بينما احتوى بعضها الآخر على قطع البخور المشهورة المستوردة من إيران. وكظاهرة قد تبدو عشوائية، إلّا أنه تمّ الاتفاق عليها ضمنياً في أوساط الشباب، أصبحت الموادّ المخدّرة توضع في هذه العلب «للتمويه».
لاحقاً، بعد هجرة كلٍّ منّا إلى بلاد مختلفة، بقيت هذه العلب حاضرة في صُورنا الجماعيّة كرمز لفترة قاسية في بقعة جغرافية قائمة على العنف، لم نستطع النجاة فيها من دون ما احتوتْه هذه العلب أو مثّلته؛ سواء كانت أدوية نفسية أو قطعاً من الحشيش صديقة للجيب أو مجموعة أصدقاء يتشاركون العطب النفسي ويتبادلون طرق التحايل عليه.
نصف حبّة
وصلت إلى غرفة الفندق في جزيرة ثولوسدو في وقت متأخّر من الليل. وضعت علبتي في مكانها المحدّد بعد أن أحطتُ ريما بالمعلومات الضرورية عمّا أعاني منه، وواظبت في الأيام التي تلت على تناول الجرعة المطلوبة. انشغل الجميع بالنشاطات الترفيهية الجماعية إلى جانب العمل والكتابة، بينما كان تأثير الجرعة الجديدة يشلّ إدراكي ويستبدل ما بقي لي من رغبات بحاجة دائمة وملحّة للنوم.
في إحدى الليالي، أيقظتني يد تطبطب عليّ وصوت دافئ يقول: سيسي إنتِ منيحة؟. سؤال استغربته في البداية على الرغم من كونه مألوفاً، ولم أستوعب إلا بعد لحظات أنّ شيئاً ما كان يحدث معي خلال نومي. أخبرتني ريما بعدما ناولتني كأساً من الماء أنّ صوت احتكاك جسدي بالفراش وأغطيته كان يوحي بأنني أتألّم، وأنّها لاحظت تناولي لأكثر من حبّة فأقلقها تأثيرها المحتمل. طمأنتُها بابتسامة باهتة أنها كانت نصف حبة إضافية فقط ضمن خطة الطبيب العلاجية. مع تردّد صوت مقيت بداخلي يذكّرني مع كل شهيق متعثّر بأنّ ما حدث كان «مجرّد كابوس آخر»، تنقّلتْ أصابع ريما بثِقَل بين خصلات شعري المجعّد.
اكتشفتُ في اليوم التالي أنّ قرين كوابيسي الخاص اكتسب أداةً جديدة للتعبير عن نفسه عبر تقليب جسدي في مكانه ومحاولة شحذ عظامه البارزة بحكِّها بشكل متواصل بالأسطح. وكان من الواضح أنّ نصف الحبّة الذي كان مُوجَّهاً ضدّ كوابيسي ضلَّ طريقه في وقتٍ ما وسلبني حواسّي. سلبني نفسي وسيطرتي على جسدي.
لم أستطع شمّ رائحة البحر في الجزيرة أو سماع صوته مع هدوء الليل. لم تتحرّك بداخلي أيّ ذكريات عن البحر وسبب حبّي له. كما أنني لم أكن قادرة على القيام بالغرض الأساسي من الرحلة ومن الوجود كما أحب أن أتخيّله، وهو الكتابة.
توقّف الزمن في ثولوسدو، واضطرب الشعور بالمكان الذي أتيتُ منه واصطدم بغياب الحاضر الفعّال. غيّبتني نصف الحبّة الإضافية عن الشعور بمَلمَس الرمال على قدمي. خبطتُ الأرضَ بقوّة في مرّة، علّني أستعيد إحساسي بوجودي. كنتُ عالقةً في ما يشبه البرزخ الزمني، في منطقة جرداء، نسيتُ فيها الماضي من دون أن أعرف ماهيّة هذا الحاضر المتعذّر على التفاعل الحسّي، ومن دون أن أتمكّن من توقّع القادم.
في طريق العودة، حاولتُ تفسير اضطراباتي عبر توظيف إحدى المقولات التي سمعتُها في إحدى الجلسات التعليمية على لسان بروفيسورة الأنثروبولوجيا آن لورا ستولر. الذكريات الثقافية مغروسة في الروائح والأصوات والمناظر… والجسد هو المخزن الرئيس للذكريات الثقافية. أنا إذاً غير موجودة من دون ذكرياتي، غير مفهومة وغير محدّدة وغير معروفة. يقول صديقي في الطائرة معلِّقاً على التفسير بسخرية: اعطيني حبة من هيدا لْ عم تاخديه. وأنا بدي ضيع وإنسى من وين إجيت. بلكي بقدر إتخطى ترومايات سوريا أسرع.