استدعاءات القاضي
أصدر القاضي طارق بيطار ما يشبه لائحة اتهام في جريمة انفجار المرفأ، تطال البنية السياسية والأمنية لنظام 4 آب. وسّع المحقّق العدلي دائرة الشبهات، ليُخرِج الجريمة من متاهاتها الإدارية إلى مضمونها السياسي، منطلقًا من فرضية أنّ الجميع متّهم حتى تثبت براءته. فتحوّلت خيوط المراسلات المعقّدة من بازار إداري يراد من خلاله التهرّب من المسوولية، إلى صك اتّهام يدين كل من طالته تلك المراسلات، وخلاصته واضحة: كانوا يعلمون.
كان يعلم. كانوا يعلمون، ويكذبون. الجميع شارك في صناعة القنبلة التي فجّرت بيروت.
لم يفاجئ بيطار أحداً بهذه الخلاصة. إذا كان من مفاجأة، فهي في خطوته هذه، علمًا أنّ لائحة أصغر من المتّهمين كانت كفيلة بإطاحة سلفه. فقبل شهر من الذكرى السنوية لجريمة المرفأ، نجد أنفسنا في وجه السؤال الأزلي في السياسة اللبنانية: ماذا نفعل بهذه الحقيقة؟ ماذا نفعل بهذه الحقيقة التي تحاصرنا منذ انتهاء الحرب الأهلية ومسلسل الاغتيالات والحروب، وصولًا إلى عملية النهب التي نعيشها؟ ماذا نفعل عندما نعلم؟
كان يعلم. ونحن نعلم. والموعد بعد شهر
فرار مقاول
أمام هذا الأمر المؤسف والذي لا يتمناه أحد لأولاده، وأمام ما تتعرّض له شركاتنا وعائلاتنا من هجوم وتحريض وتجنٍّ وافتراءات، فإنني وبكل أسف، وبعد 40 سنة من العمل، أعلن أننا بصدد إقفال جميع أعمالنا في لبنان.
بهذه الكلمات البسيطة، ودّع مقاول الجمهورية الثانية اللبنانيين، بعدما استنفد كل ما يمكن «شفطه» من صفقات ومشاريع، حوّلته إلى أحد أبرز وجوه الفساد في العقود الأخيرة. لم يودّع اللبنانيين لأنّ القضاء لاحقه، كما لم نعرف ما إذا كان فراره مدخلًا لرحيل عرّابه السياسي. فتحجّج جهاد العرب بحادثة اعتراض سيارة ابنته، ليقتنع بضرورة إقفال جميع شركاته في لبنان. فإذا كان هذا هو السبب الفعلي، لا يبقى على الثوار إلى اعتراضهم في مطاعمهم، ريثما يستنتجون ما خلص إليه عرّاب «رامكو».
ربّما هذا هو السبب الفعلي، وربّما لا. ولكنّ تزامن انتصار «النقابة تنتفض» مع فرار مقاول الجمهورية له رمزيته، وإن كان ما من علاقة بين الحدثين.
انتصرت النقابة. هرب المقاول. والموعد بعد أسبوعين.
الأزمة كعمليّة تأديبيّة
قد لا تكون الرمزية مهمّةً اليوم، ولن تغيّر في واقع الأزمة والانحلال الذي نعيشه. لا شيء قد يغيّر بهذا الواقع. فمنذ بضعة أسابيع، دخلنا طورًا جديدًا من الأزمة، طور الاعتراف بأنّ لا مهرب من سنوات طويلة من الأسى والقسوة والعذاب. ما كان من الممكن إنكاره زال مع آخر ساعات الكهرباء، لنواجه، عالقين في الطوابير، بؤس مستقبلنا.
أدّبتنا الأزمة من خلال إغلاق أيّ أفق محتمل للخروج منها. وأدّبتنا من خلال تأطير أيامنا بطوابير مختلفة، للحصول على أبسط مقوّمات الحياة. وأدّبتنا من خلال تحويل أي حركة إلى خطر محتمل، أي عطل صغير إلى إفقار أكيد، أي مرض طفيف إلى خطر موت. وأدّبتنا من خلال دفع الناس إلى مزاحمة بعضها بعضاً من أجل نصف تنكة بنزين أو ربع علبة حليب. وأدّبتنا من خلال جعلنا نتمسّك بفتات قليلة كالـ3900، وكأنّ سرقة ما يوازي الـ80 بالمئة من الودائع بات واقعًا لا مهرب منه. وأدّبتنا لأنّها هلكتنا…
ما نعيشه قد يكون من أكبر عمليات التحوّل الإجتماعي، حيث يسجن شعب بأكمله ضمن حدود مغلقة، ويتعرض لشتى أنواع النهب والضغط، تحت مراقبة حكّامه. المفاعيل الأوّلية لهذه التجربة الإجتماعية هي تحويل شعب بأكمله إلى رهائن محكومين بالبحث عن النجاة أو الفرار.
في وضع كهذا، الرمزية لا ترقى لسياسة، ولكنّها تكسر بعضًا من تأديبية الأزمة.
أن يفرّ مقاول كالفئر، أن يفضح قاضٍ نظاماً من سماسرة الموت، أن تتبهدل أحزاب النهب في انتخابات، فهذا لن يغيّر بالأزمة، ولكنّه يذكرنا بأنّها «أزمتهم»، وإن حياتنا تدمّرت جراء سرقتهم، وإنّ لا مهرب إلا بالخلاص منهم.
قد لا يتحقق هذا، ولكنّ هذا الغضب اليوم هو ما يجمعنا.