«نحن» في انتخاباتهم
ربّما لا يجمع الانتخابات المختلفة التي تحدث حول العالم إلّا موضوع واحد، وهو موضوع «الهجرة» أو «اللجوء» أو موضوع «الغريب» الموجود في قلب المجتمعات، التي باتت تنظر لنفسها كمجتمعاتٍ بهويةٍ مهدّدة بسبب هذا «الغريب». «أشكلة» هذا الوجود بات قاعدة، تتوافق عليها أكثرية القوى السياسية رغم اختلافاتها العقائدية. «الغريب» بات يحرّك الخيال السياسي. ليس فقط الخيال، البحر الأبيض المتوسّط وما في أعماقه من جثثٍ لأولئك الذين حاولوا أن يصبحوا في يومٍ ما «الغريب»، هو دلالة مادية لهذا الموضوع القاتل. و«الغريب» لم يعد الوافد الجديد، أي اللاجئ الذي ما زال يعيش بين مكانين. أصبح اليوم، كما يظهر مع صعود اليمين المتطرّف في فرنسا، الجيل الثاني والثالث من المهاجرين أو حاملي الجنسيات المزدوجة، أي كل من شاب سلالته بعض الالتباس.
بعد أكثر من ثمانين سنة على نشر حنة آرنت نصّها «نحن اللاجئين»، عاد موضوع «الغريب» ليسيطر على السياسة، الباحثة عن طهارةٍ لا يمكن بلوغها سوى بالعنف والدم.
انتخابات من وراء الجدران
عودة «الغريب» لتصدّر القلق السياسي لم تأتِ من عدم، ولا أتت جرّاء موجات اللجوء المتعاقبة. حُضّر هذا الموضوع منذ عقود، ليكون جسد «الغريب» النقطة التي يمكن فيها تلخيص كل تناقضات المجتمع. لا صراع حول الموارد، بل «غريب» يستحوذ عليها. لا اختلافات ثقافية بين الأجيال، بل ثقافة «غريبة» داخلة على المجتمعات. لا أزمة بيئية، بل «غرباء» يلوّثون قُرانا وطبيعتنا. ولإدارة حركة هؤلاء «الغرباء»، وُجِدَت جدران تفصل بين الدول، وبواخر ترصد الحركة غير الشرعية، وسجون عائمة لعزلهم عن أرض اللجوء، ودولٌ أمست مناطق عزلٍ بين زوايا العالم ومركزه المزعوم.
من وراء هذه الجدران التي تفصل بين الـ«نحن» والـ«هم»، لم يعد مُستغرَبًا ألّا يهتمّ الناخب الغربي بشيء، إلّا بهذا «الاجتياح» المتخيّل.
تسليح اللجوء
لكن ليس للاجئ مكانٌ آمن، حتّى في أقرب دول اللجوء، مهما مضى وقتٌ على لحظة اللجوء.
وإن يكن اللاجئ «مشكلة» في الغرب، فهو عندنا «سلاح»، يتمّ التلاعب فيه حسب الحاجات السياسية. موجات الكراهية والعنصرية التي تجتاح تركيا الآن، في ما يشبه «بوغرومات» متنقلة، لا يمكن فصلها عن التحوّل في سياسة إردوغان والتطبيع الحالي مع الأسد ومزايدات المعارضة التركية حول موضوع اللجوء. جرائم العنف التي شهدتها تركيا خلال الأيّام الماضية ضدّ اللاجئين هي الترجمة الطبيعية للخطاب السياسي المتشنّج تجاههم، من قبل الأحزاب القومية على ضفّتَي المعارضة والموالاة، كما هي نتيجة محاولة إردوغان تحويل موضوع اللجوء لسلاح تفاوضي. ومع المقايضة المحتملة مع نظام الأسد، وخطر الانتفاضة في وجه القوات التركية من قبل معارضة سورية قد تخشى التضحية بها، من المتوقّع تزايد العنف الموجّه ضدّ اللاجئين، الذين فقدوا أهميّتهم السياسية بنظر تركيا.
وتسليعه
العنف يأتي بعد انتهاء الوظيفة. في الدول المجاورة الأخرى، ما زالت عملية تسليع «اللجوء» سارية، بعدما اكتشفت أنظمة مفلسة أنّ لديها «سلعة» يمكن مقايضتها في السوق العالمي للبشر. فمن لبنان، حيث موجات العنف العنصري تتماشى مع التفاوض على المساعدات، إلى مصر حيث الابتزاز ذاته يطال الوافدين السوريين والسودانيين، وصولًا إلى ليبيا وتونس وغيرها من الدول، أصبح «اللجوء» السلعة الأساسية التي تصدّرها هذه الأنظمة. وهذه السلعة تُنتَة بالعنف، عنف مَن يُهجِّر وعنف من يُسلِّع وعنف من يَبتزّ وعنف من يُسلّح.
في عالمٍ باتت فيه التناقضات تنذر بعنفٍ مقبل، يشكّل «اللاجئ»– هذا الدخيل الدائم على عالمٍ فقد طهارته منذ زمن، كبشَ الفداء المثالي لامتصاص فائض العنف. اللاجئ، النازح، الدخيل، الغريب، المهاجر، أسماء مختلفة لحقيقة واحدة، وهي أن العالم لم يكن طاهرًا بهويّته، مهما حاول قوميّو الهوية فرض هذا التخيّل بالعنف، أو بانتخابات اليوم.