تحليل الحرب على لبنان
جان قصير

ممانعون وممانعون جُدُد

1 تشرين الثاني 2024

مع كل حرب أو حدث ضخم، تزداد حماسة البعض للخيارات الدمويّة و«الضربات القاضية»، لتخفي أو تخوّن «المواقف العقلانيّة»، أي تلك المواقف التي تستطيع في هذه اللحظة المصيريّة رفض مغامرات حزب الله الكارثيّة ومواجهة المخاطر الإسرائيلية على مستقبل البلد ووحدته في آن معاً. فالحرب توهم المتحمّسين لها بأن «الضربة القاضية» باتت في المتناول، ولا يجب عرقلة مرحلة الحسم من خلال أمور «ثانوية». وكما مع كل حرب، تفشل القوى التقدّميّة بالاحتفاظ بموقف متمايزٍ ومركّب، يتجانس مع مبادئها وقيمها. فزمن الحرب غالباً ما يعلن خروج القوى اليساريّة والمدنيّة من السياسة، كما حصل بعد حرب تموز. وعليه، يتهافت الكثيرون للالتحاق بأحد الخنادق، ريثما يخرجون يوماً من المدرّجات ويدعوهم أحدٌ ما لدخول الملعب.

اليوم، أصبحت الطروحات العقلانيّة تحت النار. فباتت مواقف المناضلين والمثقّفين الذين لطالما رفضوا وصاية النظام الإيراني وهيمنة حزب الله على البلد، تحت مجهر بعض المتحمّسين لـ«الضربة القاضية»، لمجرّد رفضهم تسليم آلة القتل الإسرائيلية مهمة هندسة مستقبل لبنان والمنطقة. يتبنّى أصحاب الخيارات الدمويّة على ضفاف المحورَيْن معادلة «عدوّ عدوّي صديقي»، ولو سرّاً، ويأمروننا بالتموضع بأحد المحورَيْن. فكما كانت قوى الممانعة تطالبنا على مدى سنوات (وما زالت) بمباركة مغامراتها الدمويّة وعدم مساءلة الأنظمة القمعيّة التي تدّعي نصرة فلسطين ومقاومة الاحتلال (أمثال آل الأسد والحوثيّين)، يحثّنا البعض الآخر على الرقص فوق جثث أبناء بلدنا وركام قرانا، غير مبالين بالنتائج الكارثية لمستقبل لبنان ووحدة شعبه وسلامة أراضيه. بالنسبة لهؤلاء، كلّ شيء متاح إذا كان يساهم في لجم حزب الله وإيران، حتى لو أتى ذلك من مهندسي الإبادة الفلسطينيّة.


الاستقواء على شبح حزب الله في الزمن الإسرائيلي

ليس هناك «مرجلة» اليوم في الاستشراس على ما تبقّى من حزب الله. من حقّ الجميع المطالبة بوقف إطلاق النار، ورفض مصادرة حزب الله وإيران قرار السلم والحرب، وتحميل المحور مسؤوليّة حساباته الخاطئة. لكن المسألة باتت أكثر تعقيداً اليوم. فثمّة أسئلة جديدة تفرض نفسها في ظلّ تبخُّر «قوّة الردع» وتفرُّد إسرائيل بفرض إيقاع الحرب ونتائجها، أسئلة حول ضمان وحدة لبنان، أرضاً وشعباً، وسلامة أهل الجنوب وقراهم وحمايتهم من مطامع وثأر العدوّ الإسرائيلي. بات لبنان أمام أصعب فصل من فصوله الأليمة، يشهد على نهايةً داميةً لـ«الشيعيّة السياسيّة» على يد إسرائيل، في ظلّ توسّع حالة الانفصال في المجتمع اللبناني واستعداد بعض اللبنانيين، والمسيحيين خصوصاً، إلى تنفيذ الطلاق. نعم، يحصد حزب الله اليوم ما زرعه، من نهج عنجهيّ تجاه اللبنانيين، أدّى إلى عدم احتضان البلد له كما كان الوضع عام 2006. لكن اليوم، أصبح لبنان كما نعرفه، بحدوده ومكوّناته الاجتماعية، على شفير الزوال، مما يفرض استحداث لغة جديدة تحاكي مخاطر المرحلة.
الـ«مرجلة» في التصدّي لمشاريع حزب الله كانت بالأمس، عندما كانت أحزاب قوى 14 آذار منبطحة أمام الحزب بعد «معادلة السين-سين»، وعندما كان حزب الله يشارك في قتل الشعب السوري لحماية نظام بشار الأسد ومصالح إيران في المنطقة. ولم نكن كثيرين في الأمس، نتشبّث بخطاب حادّ يحذّر من مخاطر تدخّل الحزب العسكري في سوريا ونتائجه الكارثيّة على الشعبين اللبناني والسوري، كما اتّهامه بالإسم باغتيال معارضيه. حينها كانت جميع القوى الطائفية مطبّعة مع هيمنة الحزب وتشاركه السلطة في حكومة العهد الأولى، تلك الحكومة التي لقّبتها جريدة الأخبار بـ«حكومة حلب»، تيمّناً بانتصار الحزب العسكري على المدينة.

بعد العام 2005، لم يستطع الخطاب المعارض لحزب الله فرض نفسه كحالة وطنية وبقي أسير الصراع السنّي-الشيعي والمسيحي- الشيعي، خاصة بعدما هزم حزب الله خصومه عسكرياً في 7 أيار. فتحجّم هذا الخطاب وبات أقرب إلى حالة إحباط ضمن حدود الطوائف المهزومة. لكن منذ العام 2011، شقّ الخطاب المعارض لحزب الله طريقًا جديدة بين القوى المدنية والتقدميّة، ولو بصعوبة. كانت معظم هذه القوى أسيرة سرديات ولّى عليها الزمن بعد تحرير الـ2000، مفادها أن حزب الله وُجِد بسبب تخلّي الدولة عن الجنوب، وأنه، عكس باقي أحزاب النظام، غير ضالع بالفساد. استغرق الأمر سنوات لفك الخطاب المعارض لحزب الله عن أحزاب 14 آذار الطائفية، ووضعه في إطار وطني، مع تحديث لتعريف الحزب السائد، من حالة تجسّد «المظلومية الشيعية» وغياب الدولة، إلى كونه مشروعاً إيديولوجياً وعسكرياً يستغلّ مشاعر المظلوميّة وخوف الأقليّات لتنفيذ مطامع الحرس الثوري الإيراني في المنطقة.
تطلّب الأمر خلافات حادّة بين أقرب الرفاق في كلّ مراحل بناء الحالة التغييرية. بدأ الأمر في مظاهرات إسقاط النظام الطائفي حيث كشف اندلاع الثورة السورية عمق الخلاف مع محور الممانعة. واستمرّ الخلاف في مظاهرات 2015 حيث تسبّب رفع صورة لحسن نصر الله إلى جانب باقي الزعماء بالتشبيح مباشرة على الهواء، مما أدّى إلى رفع شعار «كلّن يعني كلّن» الذي كان باطنه يعني «نصرالله واحد منهم». ومع انفجار 4 آب، عُلِّقت مشانق كلّ زعامات السلطة، ومنهم أمين عام حزب الله، قبل أن يوجّه الحزب أصابع الاتهام لنفسه، عبر عرقلة التحقيق وتهديد القاضي طارق بيطار. في كلّ هذه المراحل، كانت هناك معارضة واحدة يخشاها حزب الله، المعارضة الوحيدة الفعّالة ضد حزب الله ومشروعه: معارضة وطنية غير طائفيّة، لا تخضع لحسابات الطوائف، ولا تنصاع لأجندات المحاور، ولا تتساهل مع مخاطر العدو الإسرائيلي على لبنان والمنطقة. نهج معارض وطنيّ، حاول حزب الله مراراً خرقه وزعزعة صفوفه في العقد الأخير، مثلما لجأ سابقاً إلى تصفية بعض قيادات هذا النهج في منتصف الثمانينات والعام 2005.

اليوم، بعدما تخلّت إيران عن الحزب للحفاظ على رأسها، وقتلت إسرائيل قياداته، وتسارع حلفاؤه السابقون إلى التبرّؤ منه، وباتت بيئته معرّضة بالكامل إلى وحشيّة آلة القتل الإسرائيلية، أصبح المعنى السياسي الحقيقي لـ«المرجلة» مختلفاً. ثمّة من تأخر في ركوب الموجة، أمثال جبران باسيل ونجيب ميقاتي، ممّن يسارعون لتقديم أوراق الاعتماد إلى أسياد المرحلة المقبلة، وثمّة من يتسرّع لقطف ثمار الرهان على المحور الأمريكي-الإسرائيلي، للمشاركة في رسم ملامح النظام السياسي الجديد في لبنان.


معانٍ جديدة «للممانعة»

ينطلق رفض الممانعة من رفض منطق لا يرى سوى خرائط ومحاور ومعارك كبرى، من دون أن يلتفت إلى الشعوب والأفراد وإرادتهم. رفض الممانعة هو رفض لتبرير قتل الشعب السوري والعراقي مهما كانت الاعتبارات الجيوستراتيجيّة. رفض الممانعة هو رفض المقايضة بين الدم السوري واللبناني والفلسطيني. رفض الممانعة هو رفض لمبدأ «الغاية تبرّر الوسيلة».

‎«الممانعون الجدد» ليسوا محصورين ببعض المثقّفين والناشطين الذين شيطنوا وخوّنوا كل من لم يتبنّى خيار «وحدة الساحات» ولم يصدّق أن 7 أكتوبر هي معركة الحسم مع الكيان الصهيوني. «الممانعون الجدد» هم أيضاً المحتفلون بالمذبحة الإسرائيلية، ولو سرّاً، لأنها نجحت بتصفية قيادات حزب الله، حتى ولو ذهب ضحيتها آلاف الأبرياء وعشرات القرى والبلدات. «الممانعون الجدد»، هم أيضاً الذين لا يبالون بأن يحترق الجنوب والبقاع والضاحية، طالما أنّ قدرة حزب الله العسكريّة تتعرّض للتدمير. «الممانعون الجدد» هم أيضاً الذين لا يخشون تقسيم البلد، ولا تحويل المجتمع الشيعي إلى فريسة سهلة لإسرائيل، ولا المطامع الإسرائيليّة على أرضنا ومواردنا. «الممانعون الجدد» هم المتحمّسون «لشرق أوسط جديد» يستبدل استبداد إيران ورجعية نظام الملالي، بزمن الذكاء الإصطناعي برعاية ديكتاتوريات الخليج وآلة القتل الإسرائيلية. 

بات للممانعين القدامى ضيوف جدد، يشبهونهم كثيراً، حتى لو كانوا يتراشقون التُّهَم اليوم على ضفّتَي القتل.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
الاحتلال يجرف بساتين الليمون في الناقورة
سينما متروبوليس تعود
الجيش اللبناني تسلّم 3 مواقع عسكرية لمنظّمات فلسطينيّة دعمها الأسد
«ريشة وطن»، جداريات سوريا الجديدة 
21-12-2024
تقرير
«ريشة وطن»، جداريات سوريا الجديدة 
قتلى في حادث دهس لسوق ميلادي في ألمانيا
هكذا حرّر السوريّون أنفسهم من نظام الأسد
21-12-2024
تقرير
هكذا حرّر السوريّون أنفسهم من نظام الأسد